رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيميل أزرق بطعم الملح والحكمة والحنين يرسله لى «البحر» كل شتاء



أكثر الأشياء التى أحبها فى نفسى وأفتخر بها فى كل الأوقات، صيفًا وشتاءً، فى الربيع وفى الخريف، فى وقت السلم ووقت الحرب، حينما تطلع الشمس من مخدعها وعندما تعود إليه، فى أوقات الفرح النادر وفى أوقات الأحزان الغادرة، فى وقت الصحة وأوقات المرض، هى أننى «مختلفة جدًا» عن الآخرين والأخريات، لست مثل السبعة مليارات الذين يمشون على سطح كوكب الأرض. «مختلفة جدًا» منذ يومى الأول على سرير الولادة، وسأظل «مختلفة جدًا» حتى اليوم الأخير على سرير الموت.
أحد الأمور التى تجعلنى «مختلفة جدًا» هو أننى لا أذهب إلى «البحر» إلا فى أوقات الشتاء، يدهشنى كثيرًا لماذا لا يذهب الناس إلى «البحر» إلا فى موسم الصيف؟ أعتقد أن السبب هو «سوء فهم» لما تعنيه كلمة «البحر».
يظن الناس أن «البحر» وعاء للاستحمام ترطيبًا وتخفيفًا من شدة حرارة الجو ومن قسوة الرطوبة، وهذا خطأ فادح يمارسه الجنس البشرى منذ البدء، ويستوجب طلب المغفرة من «البحر» فورًا، وتقديم الاعتذار اللائق.
مَن يدرك معنى «البحر»، والغاية من وجوده وطبائعه وتقلباته، بالتأكيد سيذهب إليه فى وقت الشتاء حينما يختفى الجميع بأُسَرهم وعائلاتهم وأطفالهم.
وأنا لست فقط أحب السباحة فى مواسم البرد، ولكنها هى الدليل الوحيد على أن هناك سنة جديدة قد كتبت حروفها على أوراق حياتى، لذلك فأنا أتهيأ للسفر إلى «البحر»، أغتسل فيه من زمن السنة الماضية وأخرج نظيفة جديدة مستعدة للزمن الآتى.
بعد أيام قليلة سوف أرى «البحر» الفيروزى يمتد حيث الأفق اللا نهائى، إلى «البحر» أسافر هروبًا من تصحر القلوب وجفاف العقول والرمل الخشن المختبئ فى أكثر العلاقات حميمية.
إلى «البحر» سألقى ملابسى وحقيبتى وأشيائى وذكرياتى، بين الأمواج ترتمى سفينتى المتعبة المشتاقة إلى إبحار دون رجوع، على صفحة «الماء» أو على صفحة «الورق» أسبح ضد التيار.
يشتد التيار فتصبح السباحة والكتابة أكثر إمتاعًا، يعاندنى التيار يخيفنى بالدوامات يسحبنى بعيدًا عن الشاطئ، يحرض ضدى العشب والأسماك والصخور والعيون المتطفلة، وأواصل لا مبالية رحلتى مع «البحر» ورحلتى مع «القلم».
شغلتنى دائمًا العلاقة بين «السباحة» و«الكتابة»، أتأمل الخيوط المشتركة بين حركة الجسم فوق الماء وحركة العقل فوق الورق، عاشقة أنا السباحة إلى حد الهوس وأمارسها يوميًا على مدار العام، وعاشقة أنا الكتابة إلى حد الهوس أمارسها يوميًا على مدار العام، ويدفعنى هذا العشق والهوس لإيجاد علاقة ما بين تدفق الماء وتدفق الكلمات.. بين السباحة والكتابة.. بين الماء والحضارة.. بين البحر والثقافة.
قبل إقامة صداقة مع أى شخص، امرأة كانت أو رجلًا، أسأله: هل تجيد السباحة؟ هل أنت فى تواصل دائم مع الماء؟ هل تثقفت على أمواج البحر؟ ولهذا السبب ليس عندى أصدقاء، أؤمن مثل الفيلسوف اليونانى «طاليس» بأن الماء هو أصل كل الأشياء والجوهر منه خُلقت الأرض والسماء، ليست مصادفة أن نسبة الماء فى جسم الإنسان هى النسبة نفسها للماء على كوكب الأرض ثلاثة أرباع.
لقد ضلّت البشرية منذ بعيد إلى السعادة والتناغم والمحبة والسلام، لأنها عاجزة عن التواصل الدائم الحقيقى مع الماء «أصل الحياة»، لا ينتابنى شك فى أن مأساة البشر تكمن فى ابتعادهم عن قيم وأخلاقيات وعواطف تشكل فى مجموعها ما أسميه «حضارة الماء».
كيف نتوقع خيرًا من حياة تخاصم أصلها؟ كيف يرتقى البشر وهم منفصلون عن جوهر الوجود؟ الناس مؤرقون بالبحث عن الفلوس والنفوذ والسيطرة والتملك، ليس لديهم الوقت أو الفلسفة للبحث عن أصل الحياة.
من الإنصات لموسيقى للكون نكتشف أجمل الغناء، ومن قاموس المطر نتعلم فن الشعر، كل النبوءات العظيمة كانت تبشر بزمن الماء، الأشعار الباقية والقصائد الخالدة كُتبت كلها بلغة البحر.
«البحر» يعلمنا الانفتاح اللا نهائى وتقبل الأفق الذى يحتوى على كل الألوان، ثقافة «البحر» متجددة، ثرية، مدهشة، لا تعرف التنميط والرتابة والجمود.
مع «البحر» أدركت التشابه بين السباحة والكتابة، فكما «الماء» أصل الحياة، «الكلمة» أصل الحضارة، «السباحة» تنظف جسد الإنسان، «الكتابة» تنظف جسد شعب، جزء كبير من عشقى للشيخ سيد درويش أن اسمه «سيد درويش البحر».
«البحر» فى الشتاء معجزة حقيقية، معجزة مدهشة، فلماذا يقولون لنا إن زمن المعجزات فد مضى وفات؟
لا خير فى إنسان يخاصم «البحر» فى الشتاء، والإنسان الذى لا يقرأ «البحر» فى الشتاء هو غارق فى الأمية ولو معه ألف ماجستير ومليون دكتوراه، الآن فى هذه اللحظة يصلنى «إيميل» أزرق تمتزج فى رائحته الملح والحكمة والحنين يسألنى: لماذا تأخرت أنا فى انتظارك.. إمضاء «البحر».
من بستان قصائدى
فقط حينما سأفقد اشتهائى للبحر.. سأتأكد أننى فعلًا قد تدهورت
فقط حينما سأفقد اشتهائى للفرح.. سأتأكد أننى فعلًا قد نضجت
فقط حينما سأفقد اشتهائى للحياة.. سأتأكد أننى فعلًا قد تحررت