رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيران تتجرع سموم الغضب في العراق



لم تكتف طهران بتوجيه تقريعا شديدا للأحزاب والميليشيات الموالية لها في العراق، بعد أن أثبتت حركات الاحتجاج الواسعة في البلاد، أن إيران لا تتمتع بالشعبية المزعومة في الأوساط الشيعية، التي شكلت وفق المراقبين العراقيين العمود الفقري للتظاهرات في كافة البلدان والمناطق العراقية. فقد شعرت طهران بإهانة بالغة عندما تابعت صور المرشد الأعلى "علي خامنئي" وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال "قاسم سليماني"، تحت أقدام المتظاهرين العراقيين في مقاطع مصورة، حرص الناشطين على تداولها بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية للهواتف المحمولة. فيما كانت قنصليات بلادهم تحترق على أيدي المحتجين في أهم مدينتين للمذهب الشيعي بالعراق وخارجه، هما النجف حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب، ومدينة كربلاء التاريخية وفيها ضريح الحسين بن علي فضلا عن مركزية الارتباط التاريخي للمذهب بها.
في الناصرية مركز محافظة "ذي قار" جنوب البلاد، انتقم السكان المحليون لمقتل أبنائهم المتظاهرين، عبر إعلان المدينة خالية من الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، بعدما أحرقوا جميع مقراتها، بل وذهبوا إلى إجبار المرتبطين بها على توقيع صكوك براءة من تلك الأحزاب. في الوقت الذي كان يتابع الجميع من اللحظة الأولى، أن حركة الاحتجاج التي أججها الشبان الشيعة في مدن وسط وجنوب العراق، مما كشف حالة الاحتقان الكبيرة من طبيعة الحضور الإيراني المتوغل في العراق. هذا تكرر بصور متنوعة لكنه حمل نفس التعبير والهدف الرئيسي، في كل من مدينة العمارة المجاورة، حيث لم يعد ممكنا للمسلحين الذين ينتمون إلى بعض الميليشيات الموالية لإيران، أن يظهروا إلى العلن بعدما لاحقتهم الأسر العراقية والمتظاهرون بتهمة قتل رفاقهم. وأيضا مدينة الديوانية مركز محافظة القادسية القريبة، أغلقت فيها مقرات الأحزاب الموالية لإيران بالكامل، بعدما قام المتظاهرون باشعال النيران في عدد منها، كما طلبوا من أشخاص يشغلون مقار إقامة ومراكز خدمة أخرى المغادرة فورا. هذه بعض من النماذج، وليس كل ما يجري في الجنوب الذي ظل لسنوات معقل ومحرك النفوذ الإيراني في مجمل المناطق العراقية. ولهذا تعتبر طهران أنها من دون تلك الارتكازات والمنصات المؤثرة في المحافظات الجنوبية، التي تغلب الطائفة الشيعة على النسبة الأكبر من سكانها، لن تتمكن من إدارة عمليات السيطرة والتوجيه التي ظلت تتمتع بها منذ عقود.
لذلك يبدو المشهد في ظل استمرار الاحتجاجات الغاضبة، التي أطاحت بحكومة عادل عبدالمهدي، وترفض كافة الأسماء المصنفه شعبيا باعتبارها من الشريحة السياسية المصنوعة إيرانيا، دافعا الرئيس العراقي برهم صالح لأن يحاول أن يبدو معارضا لتوجهات طهران في قضية تسمية رئيس الوزراء القادم. باعتبار الانصياع للرؤية الإيرانية بالنسبة إليه يعد انتحارا سياسيا، وهذا جعله يتوجه إلى البرلمان بالسؤال عن "الكتلة الأكبر"، التي يفترض أن تقدم له مرشحا محددا يكلفه بتشكيل الحكومة وفقا للضوابط الدستورية، حيث وجد أن هذه الخطوة محاولة للتخلص من المسؤولية وإلقاء الكرة في ملعب مجلس النواب، كي يمكن الخروج من دوامة الرفض الشعبي الذي يراها الرئيس أنها لن تنتهي. لكن هذه الخطوة فتحت عليه النيران الإيرانية؛ فسرعان ما أطلقت طهران حملة سريعة ضد الرئيس العراقي، متهمة إياه بالتواطؤ مع الولايات المتحدة وإسرائيل والخليج، لتنصيب رئيس وزراء عراقي جديد مناهض للنفوذ الإيراني في بلاده. فقد أزعج إيران جدا، أن صالح بدأ يعقد اللقاءات والندوات العلنية لتحديد مواصفات رئيس الوزراء الجديد، واضعا شروط المتظاهرين وما خرج من الاحتجاجات على رأس أولوياته.
هذه المتغيرات العميقة التي تشهدها الساحة العراقية، جعلت إيران تعمل على جبهتين متوازيتين، الأولى عبر مفاوضات القوى السياسية حول قانون الانتخابات القادم، والثانية مفاوضات القادة السياسيين لتشكيل الحكومة الجديدة. وفي هذا لا يمكن اغفال أن المرجع الشيعي العراقي الأكبر "علي السستاني"، أربك الخطط الإيرانية بشكل كبير عندما دعا لانتخابات مبكرة، حيث ترى القوى السياسية المرتبطة بإيران، أن الانتخابات المبكرة في ظل النقمة الشعبية ضدها، ستخرجها من البرلمان بشكل مذل قد يهدد وجودها على الساحة السياسية بشكل عام، لذلك تماطل جميعها حتى الآن في تحديد مواقيت دستورية واضحة، لكافة إجراءات المرحلة الانتقالية من انتخابات وغيرها من تجديد في منظومة الحكم والصلاحيات. ويظل وحيدا بينهم رجل الدين المثير للجدل، "مقتدى الصدر" الذي لازال يحتفظ بتأييد كبير لا يمكن تجاوزه بالمشهد، فهو يضع قدما في ساحات التظاهر وأخرى في مربع القوى التي توالي إيران. فهو دون شك يريد أن يحافظ على شعبيته من جهة، ويبقى مؤثرا في الشأن السياسي من جهة ثانية، وهذه معادلة صعبة بالنظر إلى القطيعة بين الصدر وبعض القوى الرئيسية في التحالف الموالي لطهران، في الوقت الذي لازال يحرص وبدأب على علاقته بالقيادات الإيرانية النافذة. ومما يترجم أيضا أن هناك زلزال حقيقي يداهم النفوذ الإيراني بالعراق، هو موقف تحالف رئيس الوزراء السابق "حيدر العبادي"، الذي بات يوضع علنا ضمن خانة الحلفاء الموالين للولايات المتحدة ضد إيران، فقد حافظ العبادي طوال فترة الاحتجاجات التي لازالت حاضرة، على نفس درجة هجومه ضد السياسات الإيرانية في العراق. بل وخلال محاولة الأحزاب الموالية لإيران فرض "قصي السهيل"، كرئيس للوزراء وهو مرشح ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، اعتبر العبادي هذا الاتجاه خطرا كبيرا يهدد البلاد، وينذر بتصعيد شعبي متزايد.
طهران ترى بعينيها، أن كؤوس السم تتوالى على مائدة نفوذها التقليدي والأهم وهو الساحة العراقية، وأرجل تلك المائدة تنزع الواحدة تلو الأخرى على وقع أقدام وحرائق المتظاهرين، الذين وهي معادلة "شديدة الجرأة" وتحمل متغير هائل، من الشباب الشيعي الذي تربى في كنف هذا النفوذ، وها هو اليوم ينقضه بدأب وبثمن غال من الدم.