رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى وفاته.. "سوزان" قصة الحب التى صعدت بـ"طه حسين" إلى المجد

جريدة الدستور

يقول بشار بن برد "الأذن تعشق قبل العين أحيانًا".. هذا ما حدث فى قصة عميد الأدب المصري طه حسين، الذي تحل علينا اليوم ذكرة وفاته، وهو أحد المساهمين في حركة التنوير المصرية الحديثة، عاش فترة طويلة من حياته في فرنسا، وهناك تعرف على زوجته السيدة "سوزان بريستو"، تزوجا واستمر زواجهما 56 عاما، وأنجب منها أولاده أمينة ومؤنس.

البداية كانت حين سمعها تقرأ مقطعًا من شعر "راسين"، فأحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها، وتعلق بها قلبه وكتب عنها قائلًا: "قلبي تعلق بهذا الطائر الأجنبي الذى حط فى أعماق قلبى الحزين".

كان ذلك الحب تزاوجا روحيا بين حضارة الشرق مع الغرب، قال عنهما الكاتب الفرنسى "روبيرت لاندرى": "وذات يوم بينما طه حسين فى مقعده فى قاعة المحاضرات فى جامعة السوربون سمع صوتا جميلًا يرن فى أذنيه، صوت صبية حنون تقول له بعذوبة: إنى أستطيع أن أساعدك فى استذكار الدروس، وكانت صاحبة الصوت هي سوزان الطالبة الفرنسية المنحدرة من عائلة كاثوليكية"..

وقع طه حسين في غرام سوزان عن طريق صوتها الدافئ، وكان يخشى أن تقابل حبه بالرفض، فقرر مصارحتها بحبه بعد سفره لمصر، فإن وافقت فهنيئا له، وإن لم توافق فإنه قد غادر البلاد، فأرسل لها خطابًا وقال لها فيه: "اغفري لي، لا بد من أن أقول لك ذلك، إنى أحبك"، وكان ردها عليه: "ولكني لا أحبك"، ثم خاطبها مرة أخرى بحزن: "إنني أعرف ذلك جيدًا، وأعرف جيدًا كذلك أنه مستحيل".

ولكن نصحها عمها القسيس بضرورة إعادة النظر فى الأمر، حيث قال لها: "لا تخافي، بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار"، وبناء على تلك النصيحة، أعادت سوزان التفكير وتزوجا عام 1917، ومن شدة تعلقه وحبه بها، قال طه حسين عنها: "دونك أشعر أني أعمى حقا، أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإني امتزج بكل الأشياء التي تحيط بي".

سميت قصة حبهما بالحب المستحيل، لكونه كفيفا ولن تقبل به فتاة فرنسية جميلة، ولكنها خالفت كل التوقعات وتزوجته، لأنها تحبه وترى أنه شخصية مرموقة ومؤثرة في الأدب، وعلى الرغم من معارضة أهلها الزواج منه، حيث قالوا: كيف هذا إنه غريب وأعمى، بالإضافة إلى أنه مسلم، أبلغت سوزان ردها الأخير لعائلتها بأنها تريد الزواج منه بعد رفضهم.

ولأن السيدة سوزان كان لها الأثر العظيم فى حياته بعد ذلك، فقد قال الدكتور طه حسين عن يوم لقائه بها "كأنه تلك الشمس التى أقبلت فى ذلك اليوم من أيام الربيع فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذى كان بعضه يركب بعضا، والذى كان يعصف ويقصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقًا وروعًا، وإذ المدينة تصبح كلها إشراقًا ونورًا".

وتقول سوزان في كتابها بأن طه حسين كان يعاني من نوبات كآبة، فعندما تأتي هذه النوبات، ينعزل ولا يقابل أحدا، ولا يتكلم ولا يأكل، وكانت زوجته تعرف بحكم معرفتها من بلدها بأن هذا يسمى اكتئابًا، لكنها خشيت من أن تقول له أن يعالج من هذا الإكتئاب حتى لا تجرحه، حيث كان شديد الحساسية بسبب إعاقته البصرية، فلم ترد أن تزيد الأمر عليه.

كانت تقول بأن نوبات الاكتئاب، أو كما كانت تصفه فيها بأنه يسقط في بئر عميق لا يستطيع أحد الوصول إليه ويعتزل العالم، ولا يعود يرغب في أي شيء مهما كان، حتى أبنائه رغم حبه الجارف لهم كان يتجنبهم ويعيش عزلة تامة، منقطعًا عن كل ما حوله.

من رسائله المؤثرة والملهمة لها: بدونك أشعر أننى أعمى، أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وامتزج بكل الأشياء التي تحيط بي، وعندما رحل عن العالم، كتبت ترثيه تقول: ذراعي لن تمسك بذراعك أبدًا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة.. ابتسامتك المبهمة الباسلة.. أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة.