رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

60 دقيقة داخل مشرحة زينهم..رحلة الجثث مجهولة الهوية

مغسلة
مغسلة

في منتصف ليل الـ 21 من الشهر الماضي، وأثناء تواجد مصطفى المغاوري داخل مستشفى الحمّام المركزي، بمحافظة مطروح، لقيامه بعمله كمعاون إداري بها، دخلت سيدة خمسينية في حالة حرجة وتحملها سيارة الإسعاف وبسؤال المسعف، ذكر أنه قد وجدها ملقاة على الطريق السريع المباشر "مطروح - الأسكندرية"، وبمجرد دخولها الطوارئ تبين سوء إصابتها، وعلى إثر ذلك تم إدخالها الرعاية المركزة لمدة ثلاث أيام حتى لفظت أنفاسها الأخيرة بعد اليأس من شفائها، رغم أن هذا المشهد من الوارد حدوثه وتكراره كل لحظة بطبيعة الحال داخل مشفى على طريق محوري، إلا أن "مصطفى" قد شعر ناحيتها بعاطفة لا يعلم سببها.  

السائد في مثل تلك الحوادث أن تخطر إدارة المستشفى الجهات الأمنية بالحادث وبالتالي يكون الإجراء، بالفعل تم ذلك لكن أمرت النيابة بحفظ جسد السيدة في ثلاجة المشفى، حتى تلك اللحظة يذكر "مصطفى" أنه لا يعلم أي بيانات تخصها فلم تكن تحمل أي مستندات تثبت هويتها ولا هاتف يتواصلوا به مع أحد من أقاربها.



قامت إدارة المستشفى بنشر صورة لهذه السيدة على الصفحات الخاصة بالمحافظة وغيرها من منصات التواصل الإجتماعي ومواصفات الملابس التي كانت ترتديها حيث كانت في عباءة سوداء أسفلها زيي رياضي نفس اللون يميزه خطين باللون الأببض، استمر ذلك حتى وفاتها، ولم يتقدم أحد يظهر معرفته بها لذا اتخذت النيابة الإجراء المعتاد في تلك الظروف وهو حفظ الجثمان في ثلاجة مشرحة الحمام.

وبعد تنفيذ القرار ظلت ملامح السيدة عالقة في ذهن "مصطفى" لا يعي تفسيرًا لذلك، لذا قدم طلبًا باسمه لنيابة برج العرب لاستلام جثة سيدة بالعقد السادس من العمر، بعد أن مضى على تواجدها نحو10 أيام حتى يدفنها في المقابر الخاصة بعائلته، يفسر "المغاوري" طلبه بأنه أدرك أنه الممكن أن يظل الجسد داخل الثلاجة حتى التحلل، لذا شعر أنه من الواجب تكريمها بالدفن فلا يعلم إن كانت فاقدة للذاكرة أو غيره فلا تُعذب في حياتها وبعد الممات.



وصُدم بالرفض من إدارة المشفى ولم يسمح له بأخذ الجثمان لدفنه، حيث علل الدكتور رفيق محمد، مدير مستشفى الحمّام أن الإدارة لا تسطيع أخذ قرارات بخصوص أي جثمان وأن النيابة هي الجهة الوحيدة المخولة بذلك حيث تقوم بنشر البيانات الخاصة بها في دوريات بكل المحافظات لحين التعرف على هوية صاحبها.

الدستور داخل مشرحة زينهم
بعد قراءتك للسطور السابقة، سيجول في بالك سؤالاً عن مصير تلك الجثث مجهولة الهوية، وأن معرفتك برحلتها فقط مقصورة على الروايات، التي نقتبس منها جملة "الموت له رائحة"، فنظن أنها جملة مجازية من خيال القاص أو الروائي أما الرائحة النتنة التي تتخلل مسار جهازك التنفسي بمجرد دخولك مشرحة "زينهم"، كان ما استقبل محررة "الدستور" داخل المشرحة الكائنة بحي السيدة زينب - جنوب القاهرة- وهي الأكبر والأقدم في مصر، مُعلق على حوائطها الخارجية ملصقات تحمل بيانات مفقودين يبحث عنهم ذويهم، لعل وعسى قد عَثَر عليهم أي من المتواجدين داخل المشرحة في وقت ما.


المدخل مليء بالأسرّة التي تحمل الجثامين داخل المشرحة، ومنها إلى المغسلة، حيث غرفة صغيرة يتوسطها حامل معدني يعلوه مضخ مياه يستخدم في غسل الموتى يقف عليه عدد من المغسلين الشرعيين في زي زيتي اللون، من بينهم كان "سمير. ع" الذي يعمل "مغسل" بالتعاقد مع إدارة المشرحة.




رحلة تلك الجثث يرويها لنا "سمير"، ففي الظروف العادية يقوم بتغسيل المتوفي وتسليمه لذويه، إن كان صاحبه ضحية لحادث سير أو جريمة، وغيرها من الأسباب التي تحيله فيه إدارة المستشفى إلى داخل المشرحة قبل الدفن، لكن في حالات نادرة يكون الجثمان مجهول الهوية لا يحمل أي بيانات، فتطلب منه إدارة المشرحة أن يضع في يد المتوفي أسوار يحمل رقم متسلل ويتم إرسال الرقم لسجلات النيابة حتى يرد هذا الرقم داخل سجلاتها لحين تبيُن أي معلومات عنه، ويمكنك الاستماع إلى حديثه بالضغط هنا



كبير الأطباء الشرعيين يأخذنا في رحلة إلى عالم الجثث
يبقى التساؤل قائمًا، ما مصير الجثمانين مجهولة الهوية في المشرحة، وهو ما أجاب عنه الدكتور أيمن فودة، كبير الأطباء الشرعيين ورئيس مصلحة الطب الشرعي السابق، الذي أوضح في مستهل حديثه أن مصدر الجثامين مجهولة الهوية تأتي من حوادث سير أو جرائم تتم في الشارع دون معلومات عنها، ولا يحملوا أي مستند -يشير للاسم أو السجل العائلي أو محل الإقامة- وغالبًا ما يكون أصحابها في حالة تشوه تام لملامح الموجه فيصعب التعرف عليهم.

وتبدأ رحلة الجثة حين تأمر النيابة بالحفظ داخل ثلاجة المشرحة لحين السؤال عليه وتسلمه من ذويه، وفي الكثير من الأحيان يكون إما لمريض نفسي أو فاقد ذاكرة أو من الصُمّ والبُكم أو أصحاب الإعاقات الذهنية والمتسولين، لكن 20%؜ من القضايا تظل الجثة مجهولة دون أن يتعرف عليها أحد.


كيف يتم التصرف في الجثة المجهولة
ويرسم لنا "فودة" بكلماته مراحل الإجراءات المتبعة في تلك الجثث، فيتم تصوير الجثة وتحديد العلامات المميزة بها ورفع البصمات الخاصة بها وأخذ عينة منها، ويتم تقسيم الجثامين لـ3 أنواع: جثث مفقودة الهوية لكن يسهل التعرف عليها لأن ملامحها لا زالت واضحة، وفصيلة أخرى تكون مشوهة لكن ترتدي ملابس ومتعلقات من الممكن التعرف عليها فيما بعد، وأصعب نوع هو الأشلاء فلا يمكن التعامل معها دون الـ "DNA"، كل تلك الأنواع تحمل أرقامًا تُحفظ على قاعدة بيانات جهات التحقيق لحين ورود أي معلومات عنها.

لما رُفض طلب "مغاوري" بتحمل نفقات دفن وتغسيل جثة "مطروح" 
وذهب معنا "فودة" إلى فكرة حماية الجثة من أي غرض تجاري، وفي طيات إجابته تتكشف لنا أسباب رفض مصطفى مغاوري، المعاون الإداري بمستشفى "الحمّام" بمطروح، استلام جثة السيدة الخمسينية لدفنها، فيوضح الطبيب أنه لا يُسمح لأي أحد بالتعامل مع الجثمان قبل أن يُصرح بدفنه، ولا بد من تطابق البصمة الوراثية بين المتقدم بالطلب والفقيد حتى لا يستغله في أي غرض تجاري آخر ويتأكد الطب الشرعي أن متسلمه أحد أقاربه.


ويذكر كبير الأطباء الشرعيين السابق أنه بعد مضي فترة ٣ أشهر، تقرر إخطار إدارة المشرحة أن المتوفى استوفى المدة الثانوية دون أن يتعرف عليها أحد، فتأخذ النيابة قرارًا بدفنه في أحد مدافن الصدقة المتواجدة بمنطقة "تل العقارب على مقربة من مشرحة زينهم.