رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيرازية تحب ليفربول

جريدة الدستور

عندما جاءنا الإخطارُ بأن ابننا أحمد قُبِلَ  بهندسة الإسكندرية أشرقَ  وجهُ أمِّهِ فرحًا، كلية من كليات القمة، فى الإسكندرية وليس خارجها، ثم إن المسافة بين الشاطبى ومحرم بك ثلاث خطوات.
وهى تقدم لى القهوة فى البلكونة:
- أخوه كانت كليته فى أسيوط، ولذلك لم يستمر، عامًا بعد عام حتى صار فى كلية الآداب ولا يدخل امتحانات.
- ليس بسبب أسيوط أو قنا، محمد فضَّلَ  هوايتَه على كليته!، وهنا أطلَّ من خلف الليالى وجهُ أمى.

كنتُ  أيامها شابًا حديث التخرج وأنتظر فرصة عمل، تقدمت لمسابقات عديدة بعد الحصول على الليسانس، وكنت أسافر من قريتنا إلى الإسكندرية لحضور كورسات اللغة الفرنسية فى شارع النبى دانيال، المركز الثقافى الفرنسى لا يزال مزروعًا فى القلب، تمنيتُ وقتها لو يتاح لى العمل فى فرنسا، تصادقت مع أحد الأساتذة الفرنسيين فى المركز، وجدته مهتمًّا بى كأنما يلمح فىَّ نبوغًا ما، كتبَ لى توصية وأرسلها إلى مونبيلييه فى خطاب مسجل، جاء الردُّ مطمئنًا جدًا، كان علىَّ أن أنتهى من الكورسات وأسافر لأول مرة أغرق فى دموع أمى، القرية تنام من المغرب وأمى تتقلب على الجمر.
- لا تسافر!
تنهض فى عز الليل من سطوة الكابوس فتتفل عن يسارها وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
- لا تسافر.
أسمعها تكررها للمرة الثالثة.
تنزل قطراتٌ من دموعها على شمعة الأمنيات المضيئة.

وانتصرت دموعُ أمى واستسلَمَتِ الشمعة، فلم أسافر، تسلمتُ عملًا فى مصلحة الضرائب يحسدنى غيرى عليه، لكن طموحاتى توقفت عند حد معين.

فرحةُ امرأتى كبيرة هذه المرة، تركنا الشاشة مفتوحة فى الصالة؛ لأن القطة الشيرازية مدمنة مباريات كرة القدم الأوروبية، تتنقل فوق فوتيهات حجرة الجلوس وتتمشى فوق العمود الفقرى للكنبة وتصعد فوق المناضد متحاشية لمس أى كوب أو فازة، وعندما تبدأ المباراة تصعد على المنضدة قريبة جدًّا من الشاشة وتظل تتابع باهتمام بالغ لا يشغلها شىء.
فى البلكونة، القهوة لها مذاق مختلف هذه الليلة، أجمل ما فى امرأتى أنها لا تقف عائقًا فى طريق أبنائنا، لكنها مسرورة هذه المرة لأن بين الشاطبى، حيث كلية الهندسة ومحرم بك حيث شقتنا الجديدة ثلاث خطوات، من المؤكد أن ابننا أحمد سيسره ذلك،
هو الآن فى رحلة إلى مرسى مطروح مع أصدقائه، اتصلت به وأخبرته، تصور يا جابر، تلقى الخبر الجميل بلا مبالاة.
ضحكتُ قائلًا:
- ربنا يستر!
ودخلنا ولم تحس القطة بنا، كانت فى مكانها المواجه للشاشة تحرك رأسها وتتابع بشغف.
- إيه حكاية القطة دى مع الماتشات؟
- مدمنة كورة!
عمرها الآن ثلاثة أشهر، أول ما جئنا بها إلى شقتنا كانت ليلة طويلة، تحنُّ إلى حضن أمها؛ فيصدر عنها هريرٌ حزينٌ يقطع القلب، قلت: من الصباح سنعيدها إلى أهلها،
لكنها سريعًا ما تأقلمت وصارت واحدة منا وتدمن المباريات.
القطة تتابع حركة الكرة وتود لو تقفز وتمسك بها، لكنها بذكائها تعى جيدًا أن الأمر خدعة بصرية ولا وجود حقيقيًّا للكرة التى تتحرك بسرعة فائقة أمام عينيها.
ولأننا لا نفتح الماتشات سوى لنشاهد ليفربول ظننَّا فى البداية أن القطة تحب محمد صلاح!

لا أدرى فى أى كلية أخوه محمد مقيدٌ حاليًا، كل ما أعلمه أنه سافر إلى أوروبا مراتٍ مدعوا، حيث معارض التصوير التى يكون له فيها صورة من إبداعه، اشترى أحدهم إحدى صُوره بمبلغ كبير، ناس عندها كرامة، لا يأكلون حقوق أحد، كان بإمكان ذلك المشاهد تصوير اللوحة بالموبايل وكفى، لكنه آثر شراءها، ودفعَ فيها غاليًا، منذ أيام دعانى أحد الأدباء من قريتنا لحضور مناقشته أحد أعمال كاتب سكندرى، كان اللقاء مشهودًا، وكان صديقى ناقدًا بصيرًا لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وألمح إليها، سهرنا معًا بعد الندوة وعندما ضاحكتُهُ:
- من المؤكد أنهم أعطوكَ مبلغًا كبيرًا تقديرًا لهذا الجهد، خصوصًا أنهم أتوا بك من بعيد.
ابتسم بسخرية مريرة:
- ولا مليم وحياتك!
كان معى مجلد فخم بعنوان: «عدسات الشباب على طريق الحرير»، فتحته على صورة بعنوان «حلم العودة»، وأريته صورة ابنى محمد، وصورة من تصويره معروضة فى صفحتين؛ فرفع الكتاب إلى شفتيه وقبَّلَ البورتريه.
- ربنا يحميه، ما آخر أخباره؟
- تلقى منحة لدراسة التصوير فى الولايات المتحدة الأمريكية.
- وما موقف أمه من فراقه؟
- لاحظتُ أنها تشجعه، فرحنا معًا بتسلم الفيزا.
- جميل، الأم هى الأم فى كل العصور لكن الزمن يتغير.

عاد أحمد من رحلة مرسى مطروح عاقدًا العزم:
- سأدرس اللغة الألمانية لمدة عام فى معهد جوته، هذا سيتعارض مع دراستى فى الهندسة!
- ماذا تقول؟
- دكتور رائف الأستاذ فى إحدى الجامعات الألمانية، صديقك يا بابا، طلبتُ منه أن يساعدنى لأدرس فى إحدى الجامعات هناك، قال عليك بإجادة لغتهم والباقى أمره ميسور.
- أى إنك لن تلتحق بهندسة إسكندرية؟
- سألتحق ولكنى لن أحضر المحاضرات! كورسات معهد جوته تنادينى!

كثيرٌ من الشباب يطمحون للهجرة، وما عادت قلوب الأمهات تتقطع كما كان الأمر سابقًا، والقطة الشيرازية ما عادت تئنُّ وتتوجعُ كما هو حال ليلتها الأولى، صارت واحدة منا وتحب ليفربول ومحمد صلاح كما نحبه.