رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حماس» تولى وجهها شطر إيران مجددًا



البعض يقول إن كلمة السر؛ هى علاقة حركة حماس بالنظام السورى. تفسيرًا لزيارة الوفد المكبر من أعضاء الحركة لطهران، بعد سبع سنوات كاملة من القطيعة، بل وإفساح المجال أمامهم للقاء مطول مع المرشد الأعلى «على خامنئى»، والسماح بالتقاط صور هذا اللقاء المفعم بالترحيب والابتسامات، وتعمد تمريرها بكثافة إلى وسائل الإعلام. هذا التفسير استند إلى حزمة التصريحات المتتالية، التى خرجت من قادة حماس مؤخرًا، واعتبرت تمهيدًا أو إشارة إلى المساعى الجارية، التى تبذلها طهران من أجل إعادة المياه إلى مجاريها بين الرئيس بشار الأسد وحركة حماس.
نموذج التصريحات العاطفية الشعبوية؛ جاء على لسان القيادى بالحركة «محمود الزهار»، الذى استبق الزيارة بكيل المديح لرأس النظام السورى، قبل أن يقول تحديدًا: «إن من مصلحة المقاومة أن تكون هناك علاقات جيدة مع جميع الدول التى تعادى إسرائيل، ولديها موقف واضح وصريح من الاحتلال، مثل سوريا ولبنان وإيران». ناهيك عن أن لفظة «المقاومة»، يطوق بها الزهار عنق حركة حماس حصريًا بالمقياس الفلسطينى، والموقف الـ«واضح وصريح»، المقصود به الأداء الإعلامى لتلك الدول التى خصها بالذكر، فالوضع على الأرض ما بين تلك الدول وإسرائيل، لا يعدو كونه إدارة دقيقة بينهم لمصالح وخطوط حمراء «خفية» يشوبها التباس، يسمح بتبادل وتبديل المواقف، ويفسح له المجال الإعلامى كى يبدو أمام «الرأى العام» مقبولًا بشكل ما. لكن فى النهاية تصريح الزهار ليس مقصودًا عقلنته، أو تفنيد محتواه، فهو «على مقاس» المسار الشعبوى الذى سيتعاطاه، على أبواب مساجد قطاع غزة وفى أزقة مخيمات لبنان، لضبط بوصلة الهوى القادم، وهو ما يلزمه شحنًا لبطاريات الحناجر.
على المستوى الأعلى؛ ومن إسطنبول عاصمة المشروع التركى، اختصت حركة حماس رئيس مكتبها السياسى «إسماعيل هنية»، بالنموذج المدلس للتصريحات التى تراهن على ازدحام الذاكرة الجمعية للمنطقة بالأحداث، كى تقدم تفسيرًا جديدًا لحدث طرد مجلس إدارة حماس ورئيسها حينئذ «خالد مشعل» من سوريا، والذى جرى فى العام ٢٠١١. يقول هنية، رئيس مجلس الإدارة الحالى، عن واقعة الطرد، باعتبارها «قرار خروج» وصفه بأنه «كان مؤسساتيًا ودُرس بشكل كامل، فالحركة تحركت مع الجهات السورية فى بداية الأزمة، للحفاظ على سوريا وأمنها». التزييف العميق لأصل الأزمة التى امتدت لثمانى سنوات، تمثل ربما بداية لطريق سيحتاج لاحقًا لما هو أكثر، فالسطح ما زال ساخنًا لدى الأطراف جميعها، والأرض حبلى بمتغيرات قد تعطل مثل تلك التخريجات. أبسطها على الأقل؛ أن الذاكرة الحية ما زالت تحتفظ بتسجيل للمنصة التى نصبت فى قطاع غزة ٨ ديسمبر ٢٠١٢، خلال الذكرى الخامسة والعشرين للحركة، التى شهدت ردًا حمساويًا على واقعة الطرد، حيث قام كلٌ من مشعل وهنية برفع علم «الثورة السورية»، ليكون هذا إعلانًا واضحًا فى حينه، بقطع العلاقات مع النظام السورى والوقوف إلى جانب المتظاهرين السلميين «حسب تعبيرهم». حينها جرى اتخاذ ذلك الموقف المتقدم الصريح، عندما كان «الإخوان المسلمين» هم قادة الحراك الشعبى والفصائل المسلحة ضد النظام السورى. مما دفع الأخير مبكرًا أمام تلك المعادلات التى كان يقف على تفاصيلها، إلى أن يسارع بطرد مجلس إدارة الحركة، بل ويصف رئيسها «مشعل» فى التليفزيون الرسمى للدولة، باعتباره «الطاعون الذى كانت الدول تتهرب منه، باستثناء سوريا التى رأته يمثل المقاوم المشرد واليتيم الذى كان يبحث عن ملجأ يأويه، قبل أن تفتح دمشق أبوابها له».
تدليس هنية الذى استبق زيارة وفده إلى طهران، محاولًا إسباغ قدر من الوقار واصفًا ما سبق بالـ«مؤسساتيًا»، قفز كالعادة على بيانات الحركة ذاتها التى صدرت فى ٧ نوفمبر ٢٠١٢، تصف وتندد باقتحام الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السورى، جميع مكاتب الحركة فى دمشق وإغلاقها بـ«الشمع الأحمر»، بما فيه مكتب «خالد مشعل»، رئيس الحركة فى منطقة «المزة»، ومصادرة كل محتوياته وطرد العاملين به خارج الأراضى السورية فى غضون ٤٨ ساعة. وهى ذات المدة التى مُنحت لمشعل نفسه بمعرفة رجل النظام السورى، الذى استدعاه حينها لإبلاغه، فلم يكن أمام مشعل بُد من الانصياع الفورى لقراره، فقد كان معلومًا أنه صدر دون رجعة. ليتوجه بعدها إلى قطر، كى يستكمل أدوار الجهد الإخوانى المتشعب فى تلك الفترة، التى اختصت حماس حينها بجزء من تكليف إدارة رحاه على الأراضى السورية. ولأن الأحداث والرحى فى حينه كانت تكسر عظام النظام بقسوة، دفع ذلك الألسنة الرسمية السورية إلى الانفلات وكشف ما هو أبعد من الدبلوماسية المعروفة، وهو ما جاء على لسان الرئيس السورى نفسه فى حديثه مع صحيفة «الوطن» ديسمبر ٢٠١٦، عندما فسر موقف دولته من حماس بقوله: «كنا ندعم حماس، ليس لأنهم إخوان، كنا ندعمهم على اعتبار أنهم مقاومة، وثبت فى المحصلة أن الإخوانجى هو إخوانجى فى أى مكان يضع نفسه فيه، ويبقى من الداخل إخوانجيًا إرهابيًا ومنافقًا».
ليس السؤال اليوم؛ هو كيف ستتجاوز تلك الأطراف هذه الوقائع وهذا المستوى الذى أوصلتهم الأحداث إليه. فالبحث داخل تفاصيل هذه الأطراف جميعها وصياغتهم لعلاقاتهم البينية، وأيضًا مع آخرين بمن فيهم الوسطاء الإيرانيون. نجدنا أمام كشف اعتيادى لم يتغير كثيرًا عن عشرات المرات المماثلة، والتى عدت نهجًا راسخًا لا يحتاج للوقوف أمامه طويلًا، وهذه المرة كغيرها، يوضع للأمر «خطة» تصريحات متبادلة، كما أسلفنا يجرى تمريرها وإطلاقها من أجل الوصول إلى الأهداف المرجوة. تلك الأهداف هذه المرة من الجانب الإيرانى، لا تستهدف بالأساس القيام بوساطة مصالحة بين حماس والنظام السورى، فالأولى طرقت أبواب «حزب الله» اللبنانى قبلًا كى يقوم بهذا الدور، ليتلقى الأخير تعليمات من طهران برفض القيام بهذا الدور. فقد كانت طهران تريد الاستئثار بورقة حماس لتتعامل معها بشكل مباشر، وليس عبر الوكيل اللبنانى، فتشغيل ورقة حماس اليوم وفق المعادلة الإيرانية، مطلوب بدرجة أهمية أكبر فى طهران، وفق معادلتها الذاتية التى تحتاج لتنشيط كل الأوراق التى يمكن شحنها واصطفافها. ليس كى تدخل معها فى أى جهد عملياتى من أى نوع أو ضد أى طرف، هى فقط تحجز لنفسها مقعدًا ستكلف حماس بإعداده، على مائدة مشروع التسوية «صفقة القرن» كى يمكن لطهران أن تدخل به فى جلسات الحوار مع الولايات المتحدة، باعتبار أن لديها «جزءًا» من القرار الفلسطينى، وقطعة مؤثرة ومحورية للمشروع متمثلة فى أرض «قطاع غزة».
على الجانب الآخر؛ حماس ليست فقط تجيد إعداد «مقاعد» من هذا النوع، إنما هى قرأت ووزنت الاحتياج الإيرانى لها فى تلك اللحظة، لذلك ذهبت لتقدم نفسها وأفكارها على عتبات المرشد الأعلى، وتعلن جاهزيتها للاستخدام وسط حديث فخم من نوعية «المؤسساتيًا» وغيره، وقد يكون الأمر فعليًا يحتاج لهذا القدر من التفخيم، فغرف الذاكرة والأحداث يلزمها جهد كبير لـ«التنظيف». وهذه مهنة ومهارة إضافية مسجلة باسم حركة حماس، لذلك شرعت فيها سريعًا بهمة تحسد عليها، ما أثار ابتسامات الرضا على ملامح المرشد الأعلى، فى اللقطات التى جابت العالم بأسره.