رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهدف

جريدة الدستور


كلما أراد أن يشارك أصدقاءه لعبة كرة القدم نشبت مشاجرة بين الفريقين، وتقوم الدنيا ولا تقعد لشىء ما يتعلق باختياره، وفى النهاية يتبرع فريقٌ بضمه إليه مرغمًا، على أن يكون حارسًا للمرمى، لكن كلما اقتربت منه الكرة أسرع أحدهم لمنع الكارثة، فيطيح بها إلى خارج الملعب قبل أن تصل إلى قدميه، لذلك كان لا يلمس الكرة أبدًا، لكن حينما واتته الفرصة واستحوذ على الكرة للمرة الأولى فى حياته، أحرز هدفًا جبارًا فى مرماه ليثأر لنفسه منهم جميعًا.

الدراجة
اشترى أبوه له دراجة، هدية نجاحه، فطار بها فرحًا، لكن حينما حاول ركوبها تفاجأ بأن قدميه القصيرتين لا تصلان إلى دواستى الدفع بعد، ففضل أن يسحبها ويجوب بها قريتهم كل يوم، وكلما سأله أحدهم عن عدم ركوبه، أخبرهم بأنه قد ملّ الركوب وفضل المشى قليلًا، حتى رآه رجل طيب شعر به، وقدر معاناته، فأحضر مفتاحًا من ورشته، وهبط بالكرسى إلى أسفل ونصحه بأن يجرب، فطالت قدماه دواستى الدفع لكن سرعان ما اختل توازنه وسقط أرضًا، فلم يكن قد تعلم القيادة بعد، عاد يسحب دراجته، أسندها لجدار منزلهم، أخذ ينظر إليها.. أجهش بالبكاء.

صورتها الوحيدة
رفعت يدها اليمنى إلى السماء، وطلبت من أحدهم أن يفتح لها الباب، وابتسمت.. ثم رحلت.. بل عادت إلى كل من رحلوا عن هنا.. نادت عليهم بأسمائهم، نادوا عليها باسمها.
حينما تلقيت نبأ موت أمى، تركتهم جميعًا، وهرعت إلى هناك.. إلى الجدران المخملية الحانية، لأعانق كل الصور التى تجمع كل الابتسامات.
فصورة لابتسامة تجمعها يوم ميلادى بأصدقائى الصغار.. وصورة لقبلة على جبينى يوم شفائى من مرض عضال، وصورة لعناق كبير يوم النجاح وجنى الثمار، وصورة لعبرة رقراقة يوم الزواج، ويوم أن أنجبت طفلة هدهدتها وقبلتها، وألبستها فستان العيد.. وصورة تضمنا فيها جميعًا بقلبها وتبتسم.. فقط تبتسم.. فهى الوحيدة التى كانت تبتسم وسط الوجوه الواجمة، وهى الوحيدة التى كانت تشعر بآلامنا جميعًا حينما نبتسم.
جمعت كل الصور.. ضممتها.. عانقتها.. قبلتها.. وانتشيت، ونظرت إلى من جاء ليلقى بشريط أسود فوق صورتها الوحيدة على الجدار.. رغم أنها ما زالت تبتسم.. فأطرقت برأسى وبكيت.. أما هى فظلت تبتسم.

يد أبى
حينما تلقيت نبأ موت أبى، تركتهم جميعًا، وهرعت لأبحث عن الركن الغائر بين كنبات الصالون، فهناك كنت أحشو جسدى الضئيل لأهرب من عصاه، التى يقرع بها أثاث المنزل مُحدثًا صوتًا جنونيًا يطير معه قلبى وعقلى، ويقشعر بدنى، بدنى كله.
ورغم أن عصاه لم تمسنى أبدًا، فإننى كنت أظل مختبئًا لساعات طوال، أطول من عمرى القصير كله، أبكى.. وأبكى.. وأبكى.. أبكى كثيرًا حتى يغلبنى النعاس، فتأتى اللحظة التى يمد فيها لى يده من دون عصا لأخرج من جديد، وأرتكب الحماقات الصغيرة، التى كانت تدفعنى فى كل مرة لأن أهرب إلى هناك.. إلى الركن الغائر بين الكنبات المخملية الحانية.
أذكر أننى حينما ارتكبت خطأ فادحًا ركضت سريعًا؛ لأقفز من شرفة المنزل قبل أن يلحقنى بعصاه، لكننى تفاجأت بأنه قد ذهب إلى هناك بين الكنبات؛ ليمد لى يده من غير سوء، لأخرج من جديد لأرتكب خطأ آخر أدهى وأمر، فعدلت عن فكرة الانتحار، لكننى لم أكن أعلم أنه سيأتى يوم ألوذ فيه بكل الأركان، فأجدنى قد أصبحت أكبر بكثير من أن تسعنى، فأدركت أن يد أبى لن تأتى لتمتد إلىّ أبدًا بعد اليوم.

رجل الثلج
فى ساحة منزلنا، كان يقف رجل الثلج ينظر إلىّ كل ليلة، ويرسل لى قبلتين قبل أن أخلد إلى النوم، كانت قد نحتته جدتى منذ سنوات طوال، وأوهمتنى بأن هذا الرجل الذى ينتظر فى الخارج هو أبى، بعد أن كست جسده بمعطفه الأزرق، وغطت رأسه بقبعته الفرو السوداء، وألقت فوق رقبته شملته الصوفية الحمراء، فظللت أنظر إليه كل صباح من تلك النافذة، وأتساءل: لماذا يقف أبى هكذا؟ لماذا لا يدخن الغليون ولا يشرب القهوة، ولا يأكل الطعام؟ حاولت أن ألمسه فى غفلة من جدتى، التى حرَّمت علىّ الاقتراب منه لأى سبب من الأسباب، لكننى صعقت حينما اكتشفت أنه يعانى من البرد، فأتيت باللهب والخشب وأشعلت النار من حوله كى يشعر بالدفء، لكن عندما أتى الصباح كان قد انصهر.
لم يتبق منه سوى معطفه، وشملته السوداء، أما قبعته فقد جرفتها الرياح بعيدًا، فأشارت إليها جدتى وأخبرتنى بأن أبى قد رحل غاضبًا، لأنه يكره النار، ووعدتنى بأنها ستبنى لى أبًا غيره فى اليوم التالى، لكن عندما دخل الليل حكت لى قصة جندى خرج إلى الحرب، وترك فتاته الصغيرة فى أحضان جدتها، بعدما فقد زوجته تحت ركام الثلج، هناك أسفل الجبل، الذى انهار عندما لامسته الشمس، فصار من يومها يكره النار، ويعشق الثلج الذى طوى جثمان حبيبته، فكان أحن عليها من كل شمس، لكن الجندى الذى وقف على باب منزله يقبل ابنته، ورأس أمه قبل رحيله لم يعد، فأقسمت لى جدتى وهى تمسح دموعها بأنها لن تستبدله برجل آخر بعد اليوم، وعلىّ أن أعى جيدًا أن أبى قد مات، أو قتل، أو ربما ضل طريقه إلينا وسط البياض.

الشريط الأسود
١— دفعت الباب ببطء شديد، وقفت فى منتصف الحجرة، حدقت فى صورته طويًلا، ألقت عليها شريطًا أسود كانت تخفيه فى جيبها، سمعت صراخه على أولاده فى الخارج، جذبت الشريط سريعًا، لفته حول عنقها، تدلى جسدها من السقف جثة هامدة.
٢- دفعت الباب ببطء شديد، وقفت فى منتصف الحجرة، حدقت فى صورته طويلًا، جذبت الشريط الأسود الذى ألقاه أحدهم على الإطار، ثبتت مكانه رابطة عنقه المبهجة، ثم اتجهت إلى المطبخ لتعد له قهوته المفضلة.
٣- دفع الباب ببطء شديد، وقف فى منتصف الحجرة، حدق فى صورتها طويلًا، ألقى عليها شريطًا أسود كان يخفيه فى جيبه، سمع صراخها على أولاده فى الخارج، جذب الشريط سريعًا، ثم قفز فى خزانة الملابس.
٤- دفع الباب ببطء شديد، وقف فى منتصف الحجرة، حدق فى صورتها طويلًا، جذب الشريط الأسود الذى ألقاه أحدهم على الإطار، ثبّته مكان زهرية كانت تعشقها، ثم جلس خلف مكتبه يخط إليها رسالة طويلة