رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين الجنة والنار؟


إذا كنت تريد أن تعرف أين الجنة فاقرأ هذا المقال، أما إذا كنت تهتم فقط بالنار فاستمر فى قراءة المقال، أما إذا كان هذا أو ذاك لا يعنيك فأنصحك أن تقرأ مقالًا آخر، أما من سيستمر فى القراءة فأقول له إن بعضنا قرأ أن الجنة تحت عرش الرحمن، وأن النار تحت الأراضين أو تحت سبعة أبحر! ولكننا عندما نستفيض فى قراءة كتب السلف فى هذا الموضوع سنشعر كأننا نقرأ أساطير إغريقية، لذلك سنترك قصص الأراضين السبع والثور الذى يحمل الأرض على قرنه ولنتكلم معًا عن مفاهيم أخرى.
ولأنك ما زلت تقرأ فسأقول لك إننى أعلم أنه من فطرة الإنسان أن يعبد الله طمعًا فى جنته، أو أن يعبده خوفًا من ناره، فالخوف والرجاء مشاعر إنسانية مشروعة، ونحن نرجو من الله أن ينجينا من عذاب النار، وأن يدخلنا الجنة دون سابقة حساب أو عذاب، ولكننى أحب أن أكتب لكم عن الجنة التى يجب أن ننشدها جميعًا، وأتمنى أن يأتى زمن قد يفهم فيه بعض عتاة التطرف والاستغراق فى المفاهيم المادية للجنة وما فيها من حور العين، أتمنى أن يفهموا أننا يجب أن نعبد الله لأننا نحبه، فهذه هى أرقى عبادة، فالله سبحانه يقول فى القرآن الكريم «والذين آمنوا أشد حبًا لله» وقال «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله» وقال أيضًا «فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه» ومحبة العبد لله لا يجب أن تكون لسبب أو لعلة، فأنت تحبه وكفى.
فإذا أحببته وكفى أحبك، وهو يحبك بغير علة أو سبب، فأنت لن تنفعه ولن تزيد من ملكه، كما أنك لا تستطيع أن تضره. أنت فى الحقيقة أيها الإنسان المغرور المتكبر لا شىء، لا تظن أيها المغرور أنك امتلكت الحقيقة، خفف الوطء أيها المتكبر «فلا أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد» هل تعرف أيها الإنسان حجمك؟ أنت بالنسبة لحجم الكون صفر، تكاد تكون عدمًا، وعمرك بالنسبة إلى عمر الكون صفر، وكأنك لم تدب على الأرض أصلًا، فلنفترض أن الله بسط لأحد خلقه فى الجسم فجعله فى حجم الكون، ولنفترض أن الله جعل هذا المخلوق يعيش من بداية خلق الكون إلى قيام الساعة، ثم وقف هذا المخلوق ينظر إلى الكون فهل سيراك ويلحظ زمنًا مر عليك؟ أنت أيها الإنسان مثل «قبض الريح».
ولكن لتعلم أيها الإنسان أنك جُبلت على حب الأشياء التى ترى أنها اقتربت من الكمال وتسامت فى الجمال، فإذا علمت أن الكمال الحقيقى والجمال المطلق ليس إلا لله وحده لا شريك له فى ذلك، وأن ما تراه من كمال أو جمال هو لا شىء بالنسبة لكمال وجمال الله، ساعتئذ لا يمكن أن تعبد الله إلا لأنك تحبه، ولأنه هو المستحق للحب، فهو الذى خلقك ورزقك، وسيصل بك الشوق له أن تتمنى أن تراه وترى جماله وبهاءه وتسبح فى نعيم نوره، فقد تمنى موسى أن يراه وكان الداعى لذلك شدة حبه له وشدة شوقه لرؤية جماله، ولتعلم يا رجل أن الدرجة العليا فى الجنة هى فى رؤية وجه الله «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» وهى لمن عبدوا الله حبًا.
فتخيل أيها العبد أنك فى حضرة حبيبك، بين يديه، فهل ستنمق الكلام أم ستنطلق بقلبك قبل لسانك؟ اعلم يا صديقى أن الله لا يأبه بمظهر الإنسان ولا كلامه ولكنه ينظر إلى القلوب، فقبل أن تبحث عن أن يتجه جسدك إلى القبلة ابحث عن أن يتجه قلبك إلى ربك، واترك قلبك فى معيته، هل تعرف أيها المتكلف أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أخبرنا فى حديث شريف عن شدة حب الله لتوبة عبده بمثل عن أعرابى ترك ناقته وعليها طعامه وشرابه، وجلس ليستريح فغشيته نومة فلما استيقظ لم يجد ناقته، فبكى وأسرف فى البكاء ثم أدركته سنة من النوم، فلما استيقظ رأى الناقة عند قدميه، ففرح فرحة كبيرة وصاح من شدة الفرح قائلًا: اللهم أنت عبدى وأنا ربك! كان هذا هو المثل الذى ضربه النبى- صلى الله عليه وسلم- ليبين لنا على قدر عقولنا النسبية شدة فرحة الله بعبده التائب، لم يستنكر النبى فى هذا المثل خطأ الأعرابى بل ضربه لنا مثلًا ليدلل به على شدة حب الله لنا، ومعنى هذا أن الله لا يأبه بمظهر الإنسان ولا كلامه ولكنه ينظر إلى القلوب.
ونحن فى لغتنا العامية درجنا على قول «ربك رب قلوب» ومن حديث رسول الله تعلمنا أن الله لا ينظر إلى أجسادنا ولا صورنا ولكن ينظر إلى قلوبنا، فلا تهتم بألسنة الناس وآرائهم وأنت تخاطب الله، ولكن اجعل اهتمامك كله تحقيق محبتك له، فهل سيعاقبك الله وأنت تحبه لأنك خاطبته بطريقة لم تنل إعجاب من يعبدونه خوفًا ورهبًا ورغبًا، خاطب الله كى تذوق حلاوة حبه، فإذا ذقت حلاوة الحب فأنت فى الجنة الحقيقية، هل تعرف أين الجنة؟ هى فى قلب عبد يحب الله. وأين النار إذن؟ هى فى قلب عبد يبغض عباد الله ويقتلهم ويسفك دماءهم، ذلك أن من يبغض عباد الله ويقتلهم فهو يبغض الله.