رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد

مولانا شمس التبريزى.. الطفل فى المغارة


بأيهما أبدأ أيها الناس؟ أجيبونى بالله عليكم؟ بالشمس أم بالجلال؟ بسحابة الماء أم ببذرة الشجرة؟ هل كلامى يحتاج بعض الإيضاح؟! إذا كان ذلك كذلك فإننى سأقول لكم إنه كانت أشعةُ الشمس فى أحد الأيام تبحث عن أرض تصل إليها لتبعث فيها الحياة، وكانت سحابة الماء تنطلق سعيًا خلف أشعة الشمس تنتظر أن تداعبها أنامل تلك الأشعة فتحيلها ماءً يسقط على الأرض فيحوِّل بذورها أشجارًا، فظلت أشعة الشمس تدور وتدور، تذهب وتجىء، تظهر وتغيب، إلى أن وجدت أرضًا مهيأة، وبذرة شجرة مطمورة فى طينها.

كانت بذورٌ كثيرة مبعثرة على ظهر الطين تتيه بنفسها فخرًا، تنظر لسحابة الماء: هيا امطرى ماءك، وتناشد أشعة الشمس: هيا أرسلى أشعتك، وما علمت تلك البذور أن البذرة لكى تنبت يجب أن تكون فى جوف الأرض، ملفوفة بالطين، فرحت الشمسُ أيما فرح ببذرة الماء المطمورة فى الطين، فأطلقت أشعتها على سحابتها، فهطل الماءُ يحتضن الطين، ويتسرب برفق إلى البذرة المطمورة، ولكن كل البذور الظاهرة فَسَدَت فَحَسَدت أختها النائمة فى باطن الأرض عندما رأتها تستيقظ من غفوتها، وتحيل نفسها ساقًا يخترق الطين ويظهر منتشيًا موليًا وجهه نحو السماء، ثم يصبح شجرة فارعة كثيرة الثمار يأكل منها الآكلون على اختلاف ألوانهم وعقائدهم، فقد أصبحت «شجرة الإنسان».
عذرًا أيها الأصدقاء، فما استطعت الدخول إلى عالم الشمس وسحابتها، والشجرة وثمارها إلا من خلال تلك الكلمات القاصرة، وكأنها تتقاصر عن بلوغ تمام البيان لأنها ستُحدثنا عن شخصيتين لا يجوز الحديث عنهما بالحروف، لذلك دعوكم من الحروف وادخلوا معى إلى عالم الأحلام لنرى أحد أحلام السعادة والحب التى مرت على البشرية.
إنهما حلمان، التقيا فأصبحا حلمًا واحدًا، كان الحلم الأول عبارة عن طيفٍ يجوب الآفاق يبحث عن نصفه الثانى الذى لا يكتمل إلا به، وعندما التقيا امتزجا، وبعد أن امتزجا افترقا، وما أصعب الفراق، إنه نار الدنيا! نحن الآن مع الطيف الأول، داخل الحلم الأول، مع «محمد بن علاء الدين ملك داد التبريزى» ويا له من حلم! كان «محمد بن ملك التبريزى» ابنًا لأحد أئمة المذهب الحنفى فى مدينة «تبريز» الفارسية، وتبريز أيها السادة مدينة كبيرة، تحيطها السهول الممتدة والجبال الشامخة، والزمن الذى نتحدث عنه هو زمن الدولة الخوارزمية التى حكمت «تبريز» مائة وخمسين عامًا بالتمام والكمال، وكان حاكم البلاد هو السلطان «علاء الدين تكش» أحد سلاطين الدولة الخوارزمية، وكان السلطان مسلمًا سنيًا على المذهب الحنفى، وكذلك كان معظم سكان تبريز حنفيين، والباقى منهم شافعيين، وقد يأتى وقتٌ نتحدث فيه عن الدولة الخوارزمية، ثم الدولة المغولية، وباقى الدول التى توالت على تبريز إلى أن دان الأمر للدولة الصفوية الشيعية التى استخدمت السيف والمذابح لتحوِّل أهل تبريز إلى مذهب الإمامية الإثنى عشرية، إلا أن ذلك كان بعد مولد «الطيف» الذى نعيش معه فى حلمه بأكثر من ثلاثمائة عام.
وكواحد من أبناء أئمة المذاهب الدينية بدأ الطفل «محمد بن علاء الدين التبريزى» يحفظ القرآن، ولكنه كان كثير الشرود، دائم الصمت، لا يُجيب عن سائل، ولا ينتبه لحديث! ستراه ومُحفِّظ القرآن يصرخ فى وجهه، ومؤدب الأطفال وهو ينهره، ولكنه كان يعيش فى دنيا أخرى غير التى نعيش فيها، ويجلس مع ناس لا نراهم، ويسمع أشخاصًا لا نسمعهم، ولو قرأ أحد أطباء النفس هذا التوصيف لقال إنه كان مريضًا بالهلاوس السمعية والبصرية، ولكن طب النفوس غير طب الأرواح والأفئدة، ولذلك أثار استغراب الجميع أن ذلك الطفل الذى كان ذهنه شاردًا أثناء تحفيظ القرآن كان يحفظ أسرع وأكثر إتقانًا من أقرانه الذين كانوا يرددون الآيات خلف الشيخ.
ويغيب طفلنا عن بيته لساعات فيبحثون عنه فى كل مكان، وقلب أبيه يضطرب وجلًا عليه، وقلب أمه يصيبه الهلع، ثم يعثرون عليه وهو جالس فى مكان بعيدٍ عن بيته ينظر للسهول الممتدة أمامه، ويجيل البصر فى السماء التى لا سقف لها، أو يجدونه فى مغارة أحد الجبال يمعن التفكير! ولكن ما الذى كان يمعن التفكير فيه وهو ابن السادسة؟ لقد كان لا يزال فى طفولته الأولى ولم تعركه الدنيا بحوادثها ليتفكر فيها! ولكن أباه عرف منه أنه كان يبحث عن الله، يريد أن يراه، وقد كان هذا من الأمور المستغربة لهذا الطفل! فلا هو يلعب مع الأطفال، ولا هو يجالس الكبار ليسألهم لعل أحدهم يروى غليله، ولكنه وحده الذى يبحث عن سر أسرار وجوده، وحده ولم ينضج عقله بعد؟! نعم، فالإنسان له عقل، وقلب، وروح، ونفْس، ولعل روحًا تحمل صاحبها قبل أن يحمله عقله، ولعل نفسًا تُهدى صاحبها قبل أن يهديه عقله، ولعل فؤادًا يُنير طريق صاحبه قبل أن ينيره عقله.
عرف الأب أن ابنه هذا غير عادى، وغير العادى هذا من الأمور النادرة فى حياة الناس، فإذا نظرنا إلى وجوه الناس من حولنا سيقابلنا الملايين، كل واحدٍ منهم اسمه السيد عادى، الذى وُلد فى يوم عادى، لأسرة عادية، وتعلم تعليمًا عاديًا، واشتغل فى وظيفة عادية، وتزوج امرأة عادية، ثم مات فى يوم عادى، وكتبوا على قبره «المرحوم عادى، وُلد فى يوم عادى ومات فى يوم عادى» ولكن غير العاديين هم الذين يُحدثون فرقًا كبيرًا فى الدنيا، لذلك لم يغتم الأب لأن ابنه يختلف عن باقى الصبيان، ولكنه تقبَّل الأمر خاصة أن الطفل كان يرى بعض الرؤى، فيحكيها لوالده، فإذا بها تقع كما رآها، ساعتئذ ذهب الأب إلى أحد الصوفيين من أهل تبريز وهو الشيخ أبوبكر السلاَّل، وكان أبو بكر هذا صانع سلال، يصنع السلال من القش والألياف، ومن صنعته تعلّم الصبر والدقة، وروى الأب الحائر خبر ابنه للشيخ الصوفى، فطلب الصوفى من الأب أن يرسل له ابنه ليعلمه صناعة السلال، وحينها سيحاوره فيما يريد، ودارت الحوارات بين الصبى والشيخ، أجاب الصوفى عن بعض الأسئلة ولم يستطع الإجابة عن أسئلة أخرى وقف أمامها حائرًا.
وفى غضون شهور قليلة، كان الصبى قد أخذ من الشيخ أبى بكر السلال كل ما يعرفه، عرف منه الفيوضات، وعلوم الظاهر والباطن، وبعض أشياء أخرى، ولكن كل هذه الأشياء لم ترو غليل الصبى، فترك شيخه وأخذ ينفرد بنفسه كثيرًا فى مغارات الجبل، ثم يعود لأبيه ويحكى له عن رؤى رآها، وهو لا يدرى أراها فى المنام أم رآها فى اليقظة؟ وكانت كلها تقع، وأهم هذه الرؤى عن نورٍ كان يحمله الصبى ويتنقل به بين الناس يريد أن يضعه فى قلب أحد، ولكنه كان يقابل أناسًا كثيرين، يُخرجون قلوبهم من صدورهم فيجدها غير مؤهلة لحمل هذا النور، حتى وجد رجلًا لم ير وجهه، ولكنه رأى قلبه، ووجد هذا القلب ينتظر هذا النور، فوضعه فيه.
رأى الصبى تلك الرؤية كثيرًا، وفى كل مرة لم يكن ير وجه هذا الرجل، وظلت معه رؤياه حتى صدر شبابه الأول، فقرر أن يجوب الآفاق، ويتنقل بين البلاد ليبحث عن هذا الرجل صاحب الوجه المخفى، فهل سيراه؟