رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «16»

محمد الباز يكتب: نظمى لوقا يعترف: أنا مبشر بالعدل والنزاهة لكل أتباع الديانات

جريدة الدستور

- أمين الخولى: «محمد الرسالة والرسول» يواجه التعصب والتحيز واستغلال الأديان فى الصراعات
- فتحى رضوان لـ«لوقا»: كتابك مغامرة ومجازفة بالصلات والصداقات والمصالح.. ولغته مست قلبى
- المفكر الراحل: أسعى لرفع «ستار الجهل» ونشر الموضوعية وإظهار ما هو محجوب عن العيون

لم يكن احتفاء كمال الدين حسين بكتاب «محمد الرسالة والرسول» وتقريره على طلاب المدارس فى مصر وسوريا، هو الوحيد الذى وجد فيه نظمى لوقا متنفسًا وواحة يستريح فيها من الهجوم الذى قابله بعد صدور كتابه.
كان وجود الكتاب فى فصول المدارس، معناه أنه تمت طباعته بمئات الآلاف من النسخ.
وكان معناه أكثر أنه رد اعتبار للكاتب والباحث والفيلسوف الذى أهدرت كرامته العلمية على قارعة الطريق.
صحيح أن تقرير الكتاب على طلاب المدارس لم يستمر طويلًا، لكن الفيلسوف أحس أن هناك من يقدره ويضع عطاءه فى المكان الذى يستحقه.
من بين منْ اهتموا بكتاب نظمى كان الكاتب والمفكر الإسلامى الكبير أمين الخولى.
أمين الخولى قصة طويلة جدًا فى تاريخ الفكر العربى والإسلامى، ولد فى العام 1895، وعرف بأنه من حماة اللغة العربية الكبار، فقد كان باحثًا وعالمًا وكاتبًا وأديبًا، ومن بين ما اهتم به كان حرصه على الدعوة لتجديد الفكر الإسلامى، ويمكننا أن نراجع فى ذلك كتابه «المجددون فى الإسلام».
عندما صدر كتاب نظمى لوقا فى العام 1959، كان أمين الخولى فى الرابعة والستين من عمره، لكنه كان لا يزال يحتفظ بنفس حماسته وحيويته ومتابعته لكل ما يصدر فى مصر من كتب، لكن ما جرى منه مع كتاب نظمى، لم يكن متابعة وقراءة فقط، ولكنه احتفاء وثناء وفهم كامل لرسالة الكتاب وهدف الكاتب.
وضع أمين الخولى لما كتبه عنوانًا دالًا هو: «تطور نبيل».
وقبل أن يتحدث أهدى كلامه إلى أصحاب العقول القوية والقلوب الكبيرة.
كان الخولى يعرف جيدًا ما هو مقدم عليه.
وكان يدرك الأرض الزلقة التى يتحرك عليها نظمى.
وهى الأرض التى حتمًا سيتورط فيها كل من يسانده أو يثنى عليه، أو يقول كلمة إنصاف فى حقه.
بدأ الخولى بما يخصه.
يقول: منذ بضعة وعشرين عامًا، أهديت بحثًا عن صلة الإسلام بإصلاح المسيحية، إلى العقول القوية، والقلوب الكبيرة، التى تدرك من التدين أسمى معانيه، إلى آخر ما يقرأ القارئ فى رأس هذا المقال، وأردت أن ألفت بها أحرار الفكر أطهار القلب، إلى أن هذه الصلة بين الدينين ليست إلا أثرًا لظاهرة اجتماعية، فى حياة التدين البشرى، وأن البحث العلمى النزيه المحايد، هو الذى انتهى إلى هذه الصلة بين الإسلام والمسيحية، دون أى رغبة فى كسب فخر وأى محاولة فى إحراز فضل.
ينتقل الخولى من نفسه إلى نظمى، فقد نقله- كما يروى هو- إلى هذه الآفاق التى تبدو مترامية الأطراف، وأعاد إلى ذاكرته إهداء كتبه منذ ربع قرن، ومضى به إلى ذرى الجلال والكمال، وما لفت إليه القارئ من أمثال تلك الرؤى.
فعل به كل هذا كتاب فرغ من قراءته هو كتاب «محمد الرسالة والرسول».
لكن ما الذى لفت نظر الخولى فى كتاب نظمى؟
يقول هو: الكتاب يتحدث عن التطور الدينى، ويعرض صورًا منه فى حياة الأديان الثلاثة الكبرى.. اليهودية والمسيحية والإسلام، وينتهى ذلك إلى أن رسالة الإسلام جاءت مناسبة لتطور البشرية الطبيعى.
أحدث الكتاب فى نفس أمين الخولى ما هو أكثر فيما يبدو.
يكشف عن ذلك بأنه من الحق أن يصارح قارئه بأن جو التطور ليس هو وحده الذى حفزه إلى الكتابة عن الكتاب باعتباره التطور النبيل، بل إن شعورًا قويًا منبعثًا من الكتاب هو الذى أجبره أو كاد يجبره على أن يكتب عنه.
ما رأيكم أن أترك الخولى يحكى عن نفسه.
يقول: «أحب أن أؤكد لقارئى أن الذى دفعنى أو أجبرنى على هذه الكتابة، ليس هو شعور المتدين المتعصب الذى يرى فى الكتاب انتصارًا لدينه، أو كسبًا لنصر جديد فى وجه معارضيه، كلا.
بل إن الذى دفعنى وأجبرنى إنما هو شعور يمضى فى عنفه ودفعه، إلى أن ينقلنى إلى الطرف المقابل تمام التقابل، لهذا التعصب والتحيز والحمية الجاهلية التى تغمر النفس ذى الأفق المحدود، الغافل عن الوحدة الكبرى، والغاية العليا للتدين الإنسانى فى كل زمان سحيق مضى أو بعيد يقبل، وفى كل مكان ناءٍ من الأرض مجهول، أو قريب منها معمور، وتلك الطبيعة الإنسانية المترفعة فى الشعور هى التى ذكرتنى بالإهداء القديم».
كان الإهداء هو: إلى الذين يدركون من التدين أسمى معانيه وأنبل أغراضه.
لكن أى دراسة وأى إهداء يتحدث عنهما أمين الخولى.
كان الخولى قد أصدر قبل خمسة وعشرين عامًا من صدور كتاب نظمى، دراسة قدم لها بأن البحث العلمى النزيه عن اتصال الأديان وآثار ذلك الاتصال، خطوة صالحة فى سبيل السلام العالمى، والأخوة الإنسانية، التى سمت إليها الروح الدينية العالمية، وحلمت بها الفلسفة منذ شروق شمس الحياة الفكرية، ثم لا تزال تتطلع إليها العناصر الكريمة فى الحياة العاملة.
كان بحثه، كما أشار، هو أن يوسع أفق المتدينين، ويدفعهم من التدين إلى أطهر معانيه، على حين هو فى الوقت نفسه، واجب علمى لخدمة الحقيقة، يتولاه الباحثون فى تاريخ الأديان ومقارنتها.
كان أمين الخولى يعتبر نظمى لوقا هو أحد هؤلاء الذين هتف بهم من وراء الغيب منذ بضعة وعشرين عامًا فى الأيام والأشهر التى عاش فيها أمس الصلة بين الإسلام والإصلاح المسيحى البروتستانتى فى نزوع علمى.
يقول: لقد تمثل لى الدكتور نظمى لوقا كأحد هؤلاء المدركين المرجوين، فإنه وهو القبطى الصليبة، كما يقول عن نفسه، يملك من أمر تلك النفس ما يستطيع معه أن يكتب عن محمد الرسول ورسالته، فيقول من القول المترفع ما لا أجد بعضه أحق من بعض بالإشارة إليه، أو ينقل فقرات منه للقارئ، فكل كلمة فيه صالحة للنقل، مستحقة لهذه الإشارة.
ينتقل الخولى من الحديث عن نظمى إلى الحديث عما كتبه.
فهو فى بيان جلى يشرح العوامل التطورية التى سيرت حياة الأديان الثلاثة ووجهتها إلى أهداف بعينها فى دعواتهم، وبفهم تلك العوامل التى وضعت كل رسالة من هذه الرسالات فى مكانها من سائر أخواتها، وينتهى على ضوء تلك العوامل المسيرة للحياة والتاريخ إلى تقرير أن الإسلام ختام الرسالات السماوية، وقد استغنت به وعنده الدنيا عن توجيه آخر من السماء.
يعود الخولى إلى نظمى سريعًا.
يقول: وفى حب للحقيقة أكثر من حبه لأفلاطون- كما قال أول كتابه- بل فى تقمص لروح غاندى الذى كان يصلى بصفحات من براهما، وآيات من التوراة والإنجيل والقرآن، يمضى فى شرح مقارن لأمهات الأسس الإسلامية فى إفاضة وصراحة ووضوح، يصوره استشهاده أول ما استشهد بالآية القرآنية «وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا أولئك لهم أجرهم عند ربهم».
فإذا كانت مناجاته الروحية لأبى القاسم، وما يتراءى له من جوانب شخصيته الجليلة، فذلك ما لا تطيقه النفس البشرية إلا بعد استشراف لدنيا غير دنيا سكان هذا الكوكب المخلد إلى أرضه، المتهالك على أوهامه، المتفانى فى سبيل تفاهاته.
كان أمين الخولى عبقريًا فى التقاطه للرسالة العظمى التى ضمنها نظمى لوقا فى كتابه.
يقول عنها: يشعر قارئ كتاب «محمد الرسالة والرسول» أن باستطاعة البشرية الترفع المحلق عن وراثاتها ورواسبها الصلبة من أفعال آلاف الأجيال، واستهواءاتها العنيفة، وضعفها المتهالك أمام هذا وأشباهه مما يثقلها، ويحول دون كل استعلاء منها، وهى حال الكثرة بل حال الكل والجميع إلا قلة نادرة، لا يكاد يكون لها حكم، إننا جميعًا بكل ضعف بشريتنا لا ندرك من صلة الأديان المختلفة إلا العداوة والبغضاء، والحقد والسخط على حطب جهنم المخالفين لنا، وتلك هى الآفة التى صب بها أهل الأديان على الحياة فى كل عصور التاريخ شواظًا من نار، فى محارق ومذابح، ومعارك من المذهب النقى والعقيدة السليمة على الملاحدة الهراطقة المبتدعين.
ويصف الخولى شعوره عند مطالعته الكتاب.
يقول: «إن شيئًا وراء ذلك كله فى أعماق نفسى، وطوايا روحى هو فى الحق الذى أثار ذلك الشعور، الدفاع الغلاب فى نفسى عند قراءة ما وضعت من كتاب (محمد) للدكتور نظمى لوقا، إنه حلم باهر قد تراءى للنفس حينًا ما منذ سنين لا تقل عن العشرين، أذهبت نسمة من تلك النسمات الإنسانية المنعشة فى دعوة ترددت أصداؤها من أقصى الغرب إلى أبعد الشرق، تريد أن تستنفر أهل الأديان إلى أن يجعلوا أديانهم وسيلة من وسائل محاربة البغضاء والحقد بين الناس، وقلة تعاونهم على تخليص دنياهم من آفاتها، بما فى عقائدهم من خيرية وروحية».
إلى هذا الحلم الجميل الفاتن، نبهت محاولة الدكتور نظمى لوقا، فى سبيل التسامى على أوهام البشرية وردت هذا الحلم القديمة ظلالًا من الرحمة، وخيوطًا من النور، تتراءى غير ضعيفة فى أفق الأمل الإنسانى، الذى لا يصرعه اليأس مهما تقسو حوله الأحداث وتتجسم الفرقات.
إن كتاب «محمد الرسالة والرسول»، يرد إلى العقول القوية والقلوب الكبيرة الثقة فى بلوغ الحياة على هذه الكرة المظلمة، إلى ما يسامت أملها فى بلوغ القمر، والدوران مع الشمس.
يلخص أمين الخولى رؤيته فى كتاب نظمى، يقول: «إن هذا الكتاب يقرؤه كل ذى عقل قوى وقلب كبير، من أى دين وأى ملة، بل مع أى إنكار، فيرى أن التدين قدير على أن يكون ترفعًا نبيلًا، يطهر النفوس، ويحيى الآمال.
ومن أجل هذا رجوت فى ثقة أن يكون هذا الكتاب تطورًا نبيلًا، فى نظرة كل ذى دين إلى ما يرجى من خير للدنيا بالتدين».
أغلب الظن أن أمين الخولى لم يكتب ما كتبه عن نظمى ولكتابه ليكون مقدمة للكتاب، أو تقديم للطبعة التى يدرسها الطلاب، كانت هذه كتابة حرة، أصر نظمى فيما يبدو على أن تكون مصاحبة للكتاب، اعتزازًا بها وحبًا فى صاحبها الذى أنصفه.
لم يكتف نظمى بما كتبه أمين الخولى، بل حرص على نشر رسالة كان قد أرسل له بها الكاتب الكبير فتحى رضوان.
كان هذا نصها:
السيد الدكتور نظمى لوقا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،
فإنى أرجو أن تأذن لأحد مواطنيك فى الوطن العظيم مصر، وفى الوطن الأكبر، العالم وطن الجميع، أن يكتب إليك عن غير سابق صلة أو تعارف.
فإن كتابك عن «محمد الرسالة والرسول» كان خير بديل عن صديق لكلينا يقدم كل منا لصاحبه، شأن الكتاب الناجح أو الصادق دائمًا، فى عقد الصلة بين الكاتب وقرائه.
كما أرجو ألا يتبادر إلى ذهنك، أن كتابك حفزنى على تحرير هذا الخطاب، لأنك أردت الحديث فيه عن محمد، نبى المسلمين وأنا مسلم، وأنت من المسيحيين، فتأليف الكتب عن الإسلام، من مسيحيين سبقك إليه كتاب كبار من مسيحيى أوروبا وأمريكا ولم يروا فى ذلك حرجًا، وإن كان فضلك أكبر من فضلهم جميعًا، إذ إن ما تذرعت به من شجاعة للإقدام على هذا العمل الأدبى، أكثر مما احتاجوا إليه بكثير.
فاختلاف الظروف والبيئات والملابسات، يجعل من عملك شيئًا أقرب إلى المغامرة والمجازفة بالصلات والصداقات والمصالح.
لذلك فإنى أكتب هذا لأعلن إليك أن الطابع الإنسانى فى كتابك، قد مس شغاف قلبى أكثر من أى شىء آخر فيه على جماله كله، فقد جرى بأسلوب من يحب الناس ويحب الخير لهم، ويحب الأخيار فيهم، ويحب لهم أن يعيشوا متآخين، صافية نفوسهم، مشرقة بالود والتسامح قلوبهم.. ودمت لأخيك المخلص.
ظلت رسالة فتحى رضوان لنظمى لوقا مجردة، حتى أعاد نشرها مرة أخرى فى كتابه «أنا والإسلام»، فقدم بين يديها بقوله: والحقيقة أن نخبة من أفاضل لا يستهان بهم من المسلمين- ومنهم علماء دين كبار أجلاء- فطنوا إلى هذا المغزى، وأحسوا فى ضوئه التعرف على المقصود من كتابى، ووجدوا فيه صدى لما فى نفوسهم النقية من ليبرالية وسماحة روحية، بل إنهم حرصوا دائمًا على تهنئتى بحلول الأعياد المسيحية، إيماء إلى أنهم تبينوا من أنا وماذا أنا بصدده من موقف فكرى يقدرونه.
بل لا يفوتنى أن أسجل هنا رسالة التحية والتقدير التى تلقيتها فور صدور الكتاب من الأستاذ الألمعى فتحى رضوان، معربًا فيها عن فطنته لما انطوى عليه موقفى وما يرمز إليه.
كان لفتحى رضوان أثر بالغ فى الحياة السياسية والفكرية المصرية، تولى وزارة الإرشاد القومى فى بدايات ثورة 1952، وكان قد بدأ العمل السياسى قبلها بسنوات، إذ أسهم فى تأسيس حزب مصر الفتاة مع أحمد حسين، وأنشأ مجلس حقوق الإنسان المصرى.
آثار فتحى رضوان الفكرية والصحفية، تشى بأنه كان شجاعًا فى إبداء آرائه، ولذلك كانت إشادته بنظمى لوقا مهمة جدًا، وهو ما جعله يحرص على نشرها فى نسخة الكتاب المدرسية، ثم نشره فى الكتاب الذى أصدره لإبراء ذمته، رغم أنها كانت رسالة شخصية أرسلها فتحى إلى نظمى مباشرة، ولم يحرص على نشرها نشرًا عامًا.
لكن هل استطاعت هذه الآراء الإيجابية أن تنصف نظمى أو تمنحه حقه أو تعيده لكنيسته؟
لم يحدث شىء من هذا.. كان صاحب المذهب ينتظر إنصافًا من القارئ العادى.
فليس لمثل كمال الدين حسين أو أمين الخولى أو فتحى رضوان يكتب.
لقد قدّر نظمى لكمال الدين حسين محاولته مساعدته فى نشر فكرته.
لكنه يقول أيضًا: التصدى لشق الطريق أمام الموضوعية، هو واجب المفكر فى المقام الأول، قبل أن يكون مهمة التنفيذيين من القائمين بالتربية والإعلام، فالمفكرون قدرهم فى أمور الفكر وأمور العلم على السواء، أن يتلقوا الصدمة الأولى التى تواجه كل دعوة غريبة.
ولأن الأمر فى هذه الحالة كان شخصيًا وماسًا بنظمى وحياته، فقد سأل نفسه فى النهاية عما استفاده من فشله فى الوصول إلى هدفه من كتابه «محمد الرسالة والرسول».
الإجابة فى حقيقة الأمر كانت كاشفة وجارحة.
رأى نظمى أن من استجابوا له بحسن الإدراك لا حاجة لهم إلى هذه الكلمات.
ثم جاء السؤال الوجودى الأكبر الذى يمكن أن يواجه أى كاتب، وهو: لماذا أكتب؟
تساءل فى حيرة: أثمة جدوى من جهد يثمر عكس المقصود على طول الخط؟
وفى لحظة يأس قال: المستجيبون لى استجابة صحيحة هم أصحاء أصلًا، ومن لا رغبة لهم فى الاستجابة لا جدوى من التوجه إليهم بالخطاب، فلا معنى لمواصلة السير فى هذا الاتجاه، وهكذا قال لى الواقع.. كُف عن الكتابة على الماء.
وقبل أن يسقط نظمى فى اليأس التام، ظهر له صديقه الذى نحته من نفسه وضميره، وكان يتحدث معه دائمًا، لتدور بينهما هذه المحاورة.
قال له صديقه: لا تظن أنك أبرأت ذمتك، فما دمت تراهم معتلين، وما دمت تعرف ماذا يبرئهم، فليس من حقك أن تصمت، وأنت مدرك ما تبديه الذاتية دائمًا من مقاومة للدعوة إلى الموضوعية أعنف المقاومة وأضرارها، ولا تنس كلمة السيد المسيح: ليس الأصحاء بحاجة إلى الطبيب، بل المرضى.
فرد عليه نظمى: هذه الحقيقة على عينى ورأسى، ولكن ما الجدوى، وهم لا يريدون أن يتغيروا، ولا جدوى إن لم يحدث التغيير من داخلهم، والتغيير من الداخل لا يستطيعه أحد إلا الشخص نفسه، الذى يراد له أن يتغير، فأى دور لمثلى سوى تكرار ما صنعت، وقد تبين أنه عقيم عقيم عقيم.
فقال له صديقه: «لك فى مثل الزارع الذى ضربه السيد المسيح أسوة، ولك فيه قدوة، دعنى أذكرك به إن كنت نسيت، هو ذا الزارع قد خرج ليزرع وبينما هو يزرع وقع بعض الحب على جانب الطريق، فجاءت الطير فالتقطته وجاء بعضه الآخر على أرض صخرية رقيقة التراب، فنبت من وقته، ترابه لم يكن عميقًا، فلما أشرقت الشمس احترق، ولم يكن أصل فيبس، ومنه ما وقع على الشوك فارتفع الشوك وخنقه، ومنه ما وقع على الأرض الطيبة فأعطى بعضه مائة، وبعضه ستين وبعضه ثلاثين، فمن كان له أذنان للسمع فليسمع».
ابتسم نظمى فى إعياء، وقال: «لم أكن نسيت هذا المثل الذى جاء فى الفصل الثالث عشر من بشارة متى، ولكنى لا أدرى فيما حولى أين الأرض الطيبة؟
فمن أحسنوا الاستجابة لى أرض طيبة أصلًا نباتها يانع، ولا حاجة بها إلى زارع ضعيف مثلى».
فأصر صديقه الذى هو ضميره على موقفه.
قال له: أنت مخطئ، فرصتك كامنة فى النفوس النقية التى لا تقاوم المعرفة متى أتيحت لها، ولكنها لم تتح وسط ظروف البيئة، فحتى لو كانت نسبة هؤلاء ضئيلة، فهم يستحقون ما يبذل من جهد، لأنهم بحاجة إلى من يفتح عيونهم السليمة على ما كان محجوبًا عنهم، بحاجة إلى من يرفع ستار الجهل عن معارف مجهولة، لهم بحكم الظروف، فينمو فى داخلهم استعدادهم الكامن للموضوعية، هؤلاء هم أرضك الطيبة التى لم تزرع، فازرعها أنت، فهؤلاء هم الأمل، وهم الشمعة التى مهما كانت صغيرة، فإنها تبدد الظلمات، ولا يلبث نور الموضوعية أن ينتشر منهم بمرور الزمن «أدِّ واجبك ودعك مما يكون».
خضع نظمى لوقا إلى صوت ضميره.
أصر على موقفه بأنه ليس محمد أو المسيح هو الهدف النهائى لكتاباته، بل هما وسيلتاه للتبشير بالموضوعية، فهو ليس مبشرًا بدين، ولكنه مبشر بالعدل والنزاهة بين يدى المؤمنين بكل دين، بل بين يدى جميع البشر.
ولذلك كان طبيعيًا أن يستكمل نظمى لوقا مشروعه فى الإسلاميات.
فالأمر لم يكن رد فعل عابرًا، بل كان رسالة وهدفًا.