رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ربك رب قلوب"..

أيمن الحكيم يكتب: كرامات الشيخ النقشبندى.. تزوج سيدة «عاقر» فأنجب منها 3 أبناء

جريدة الدستور

خرجت السيدة صفاء حجازى، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، من اجتماع طويل، وجاء لها السكرتارية بقائمة المتصلين عليها وهى فى حجرة الاجتماعات، ومن بين القائمة التى تضم أسماء مهمة ومسئولين كبارًا طلبت أن يتصلوا لها بهذا الشخص المجهول، ورحبت به بحرارة: إزيك يا حاج أحمد.. أخبار أخوك سيد إيه.. خلص جيش ولا لسه؟
وفوجئ الحاج أحمد سيد النقشبندى، الذى كان يتصل عليها للمرة الأولى فى أمر يخص تسجيلات والده سلطان المداحين برئيسة الاتحاد «رحمها الله» تسأله فى أمور عائلية لا يعرفها سوى أسرة الشيخ، ووجد نفسه يسألها بفضول: وحضرتك عرفتى الحاجات دى منين؟.. فأجابت مباشرة: بيتنا فى طلخا «بالمنصورة» يجاور بيت «حما» والدك ووالد زوجته «هدية» وبحكم الجيرة عندى كل الأخبار.
«هدية» هى الزوجة الثانية للشيخ سيد النقشبندى، تزوجها بعد رحيل زوجته الأولى، ابنة عمته وأم أولاده، وكانت لهدية تجربة زواج قبله لم تنجب منها، وتزوجها الشيخ على أنها عاقر، لكن المعجزة تحققت على يديه، فقد عاشت معه 4 سنوات أنجبت له خلالها 3 من الأبناء: «إبراهيم» الذى يعمل الآن فى أبوظبى، «رابعة» التى اختار لها والدها اسمها، «سيد» وسُمى على اسم والده الذى مات وأمه حامل فيه وولد بعد رحيل النقشبندى بشهرين.
عاشت «هدية» مع الشيخ السنوات الأربع الأخيرة فقط من حياته، أما الزوجة الأولى «صديقة» فهى التى عاصرت وشهدت رحلة صعود الشيخ منذ أن جاء ليستقر فى طنطا عام 1955 وينطلق منها ليصبح واحدًا من أشهر المنشدين والمقرئين فى العالم العربى.
جاء النقشبندى ليجاور سيدى أحمد البدوى وعمره 25 سنة، أى كان فى ريعان شبابه وفتوته، ولذلك رأى والده أن يزوجه، واختار له ابنة عمته «صديقة»، وكانت على قدر من الجمال وكثير من الطيبة، وهو ما يتوافق مع طباع الشيخ وورعه وطيبة قلبه الشديدة.
واستأجر الشيخ شقة واسعة فى «زاوية القصبى» المجاورة للمقام الأحمدى، الولى الكبير الذى ارتبط به النقشبندى روحيًا ورفض أن يغادر طنطا من أجله رغم مغريات الشهرة والمال التى كانت تنتظره فى القاهرة.
عاش الشيخ مع زوجته الأولى حياة بسيطة، وأنجبت له خلالها أولاده الخمسة: «إبراهيم» ابنه الأكبر وقد توفى قبل سنوات.. «محمد» وكان بارعًا فى العزف على العود ورحل فى وقت مبكر من عمره.. «فاطمة» وتوفيت هى الأخرى وهى والدة د. ياسر الفقى.. «الحاجة سعاد» وهى الوحيدة من أبناء الشيخ من زوجته الأولى التى لا تزال على قيد الحياة.. «ليلى» وقد ورثت حلاوة الصوت عن والدها وكانت تعشق أغانى أم كلثوم وتحفظها وتقلدها، ولما جاءت أم كلثوم مرة إلى طنطا أصر الشيخ على أن يستضيفها فى بيته وكان من عشاقها واستمعت إلى «ليلى» وبهرت بصوتها، لكن الشيخ لم يستجب لطلبها أن يتركها تحترف الغناء.. وكان للسيدة ليلى، رحمها الله، ابن يتمتع بجمال الصوت وكان ينتظره مستقبل كبير فى الإنشاد ولكنه رحل فى ريعان شبابه.
تولت السيدة «صديقة» مسئولية رعاية بيت الشيخ وتربية أولاده، خاصة أن الشيخ كان مشغولًا طوال الوقت، فهو إما مسافر إلى القاهرة، أو إلى بلد عربى، أو يحيى ليالى القرآن والإنشاد فى طنطا ونواحيها.. يعود فى ساعات متأخرة من الليل، وينام بعد أن يصلى الفجر ويستيقظ قبل صلاة الظهر ليبدأ يومه فى «المندرة» التى خصصها من بيته لاستقبال زواره وإجراء البروفات مع بطانته على التواشيح الجديدة.
وكانت الزوجة مستعدة طوال الوقت كذلك لاستقبال ضيوف الشيخ من المساكين من مجاورى «البدوى» ولم يكن الشيخ يرد سائلًا أو جائعًا، بل كان المساكين يعرفون مواعيد وصوله إلى البيت فينتظرونه.. وببساطة شديدة يُخرج ما تقاضاه من أجر ويوزع أغلبه على المساكين، ثم يناول «أم إبراهيم» ما تبقى فى جيبه لتنفق منه على البيت.
وجاءت البلدية ذات يوم لتخبر الشيخ أن عليه أن يغادر شقته فورًا لأنه صدر قرار إزالة للبيت القديم المتصدع، ولمكانته فقد خصص له محافظ الغربية وقتها شقة إيجار فى المساكن الشعبية، لكن الشيخ لم ينتقل إليها إلا بعد أن انتقل معه جيرانه فى البيت واطمأن إلى تخصيص شقة لهم بجواره فى المساكن الشعبية، ولا تزال الشقة موجودة فيها روح الشيخ ورائحته بعد كل تلك السنوات على رحيله.
ورغم رقة حالته وعيشته المتواضعة كان الشيخ يتمتع بعزة نفس هى مضرب الأمثال، فرغم صداقته الطويلة بالرئيس السادات ومحبة الرئيس الراحل له، إلا أنه لم يستغل تلك العلاقة ولم يطلب منه شيئًا، ولو فعل لكان السادات على أتم استعداد للاستجابة.
وكان السادات قد استمع لصوت النقشبندى بالصدفة وهو يحيى حفلًا بمسجد «الدكرورى» بالسويس، وكان السادات، الذى لم يكن قد وصل للرئاسة بعد، يمر بسيارته من أمام المسجد، فلفت الصوت الآسر أسماعه، والسادات من كبار السميعة لمن يعرف، فظل جالسًا فى سيارته بجوار المسجد حتى مطلع الفجر بعد أن انتهى الشيخ من حفلته.. ومن حينها صار السادات من كبار سميعة النقشبندى، وكثيرًا ما كان يطلب من صديقه وجار الشيخ فى طنطا د. محمود جامع أن يأتى به إلى «ميت أبوالكوم» ليسمعه بمزاج.. وحكاية غناء النقشبندى من ألحان بليغ حمدى بأوامر السادات معروفة وتفاصيلها مشهورة وأسفرت عن 15 دعاءً ذاع منها واشتهر «مولاى إنى ببابك».
لكن التفصيلة التى يقف عندها «رضا حسن» صديق الشيخ وحارس تراثه وسيرته فى حكاية النقشبندى مع بليغ حمدى هى ما شاع عن رفض الشيخ فى البداية أن يغنى بمصاحبة الموسيقى لشبهة تحريمها، فالعكس هو الصحيح، كما يقول لى رضا حسن، فقد كان النقشبندى من عشاق صوت أم كلثوم، وهو نفسه كانت له سوابق فى الغناء قبل تجربته مع بليغ، حيث شارك فى غناء أغنيات المسلسل الإذاعى «الباحث عن الحقيقة» عن سيرة الصحابى الجليل سلمان الفارسى وغنى من ألحان الموجى.. وكرر التجربة فى مسلسل آخر عن «سلطان العاشقين» ابن الفارض، وقد يندهش الكثيرون عندما نذكر أن الشيخ شارك بالتمثيل والغناء فى فيلم سينمائى اسمه «الطريق الطويل» شاركه التمثيل فيه عبدالبديع العربى ولكن الفيلم- الذى صورت مشاهده فى استوديو مصر سنة 1968- لم يكتمل ولم يذع وما زالت أغانى الفيلم لدى ملحنها الأستاذ حسين فوزى.. وفى العام نفسه كانت له تجربة مع الملحن حلمى أمين من أشعار عبدالسلام أمين.
ويحكى لى رضا حسن كذلك أن النقشبندى شارك بأغنيات سجلها تحية لنصر أكتوبر، بينها أغنية عن معركة القنطرة يقول مطلعها: نادى جنود الله يوم القنطرة.. لا زالت عالية اللواء مظفرة.. وقبل الحرب بشهر كان الشيخ بصحبة السادات فى ميت أبوالكوم فطلب منه الرئيس بجدية: ادعيلنا يا شيخ سيد ربنا ينصرنا فى الحرب.
ويعترض رضا حسن كذلك على تلك الواقعة التى شاعت عن خلع الشيخ العمامة والجبة والقفطان بعد أن سمع ألحان بليغ فى الأستوديو بحضور الإذاعى الكبير وجدى الحكيم.. ويضيف: عندى يوميات كتبها الشيخ بخطه يسجل فيها أحداث حياته اليومية منذ عام 1943 وحتى 1975، أى قبل وفاته بشهور، وليس هناك ذكر لتلك الواقعة التى لا تليق بوقار شيخ كان يقدم نفسه فى كروته الشخصية على أنه «خادم القرآن».
وعاش النقشبندى عام حزن قاسيًا، ففى سنة واحدة رحل شقيقه إبراهيم الذى كان أحد أفراد بطانة الشيخ وبمثابة سكرتيره ويعتمد عليه كثيرًا ويصاحبه فى كل تنقلاته.. ثم كانت وفاة زوجته «صديقة» وكانت قد أصيبت بمرض السكر وأحدث لديها مضاعفات شديدة وصلت إلى غرغرينة بالقدم، واضطر الأطباء إلى إجراء بتر فى أصابع قدمها.
عاش الشيخ حالة شديدة من الحزن على فراق شقيقه وزوجته، ولأن البيت كان لا بد له من رعاية فقد اقترح عليه أولاده أن يتزوج، واختار الشيخ سيدة «طيبة» ترعاه وترعى أولاده، تزوجها على أنها لا تنجب، فإذا بها تنجب له ثلاثة من الأبناء.
عاش النقشبندى زاهدًا فى الأضواء ومتاع الدنيا، كان راضيًا وقانعًا برزقه القليل، وعندما رحل فى 14 فبراير 1976 عن 55 عامًا لم يكن فى بيته سوى 3 جنيهات.. ورغم أنه أعتمد فى الإذاعة قارئًا ومنشدًا وكان واحدًا من نجومها، إلا أن أسرة النقشبندى فشلت حتى اليوم فى صرف معاش له.
وقبل وفاته ظهر الحاج أحمد نجل الشيخ فى برنامج تليفزيونى وكشف عن مماطلة كل هيئات الدولة فى صرف معاش لأسرة النقشبندى.. إلا أن أحدًا لم يتحرك بعد مرور كل هذه السنوات.
وللشيخ أبناء على قيد الحياة، وله ما يزيد على 15 حفيدًا، لكن لا أحد منهم يعرف لمن يتجه بالشكوى وممن يطلب إنصاف واحد من أجمل الأصوات التى قرأت كتاب الله وابتهلت بحب نبيه.. صاحب تلك التحفة الخالدة «مولاى إنى ببابك»؟