رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرحوم محتمل

جريدة الدستور

فى بلادنا أكثر شىء نقوم به هو قتل الوقت. أكثر الأماكن يقتل فيها الوقت ويذبح ذبحًا هو المقاهى وما أكثرها.
كل مساء يذهب على ليذبح الوقت على المقهى مع أصدقائه بسكين الدومينو.
تعددت السبل والذبح واحد.
هناك من يتلذذ بالذبح على أنغام النرجيلة التى تغرد فى عزف منفرد لا سيما أن تكون بالفواكه المتعددة تفوح روائحها على جذوتها ودخانها يعبئ المكان.
منهم من يستخدم الطاولة وطرقعات النرد فى جنابتها وخبطات أوراقها عندما يضحك الحظ للاعب دون الآخر. هناك من يفضل القتل الرحيم بالأحاديث المختلفة تارة فى الاقتصاد أو السياسة أو الرياضة، على المقهى تجد آراء لن تجدها فى الأمم المتحدة ولا تحت سقف أى برلمان فى العالم. تجد خططًا تدريبية لن تجدها فى أعرق النوادى لا برسا ولا ريال مدريد ولا حتى الأرسنال.
أثناء انهماك على فى ذبح الوقت مع حبكات الدومينو وقفلتها، رمق عجوزًا يجلس منفردًا يذبح الوقت بطريقة منفردة يقرأ صحيفة تلو الصحيفة وأمامه على المنضدة جرائد كثيرة ومجلات بكمية لافتة للنظر والاندهاش فى مثل هذا الوقت وبهذه الكمية التى لا يقدر على شرائها سوى ميسور الحال. تجاوز ذلك العجوز الستين بعدة أعوام يرتدى بدلة فاخرة جدًا مثل التى نرى المشاهير يرتدونها لكنها متسخة ليست معتنى بها، حذاء فخم لكنه غير نظيف لحية كثيفة غير مهندمة يبدو عليه أنه اضطر لإطلاقها لسبب ما رغم إرادته. يواصل نادل المقهى إحضار مشروبات له دون أن يطلب كأنه يعلم ما يريد من قبل أو اعتاد عليه. لا يكترث بمن حوله ولا يحاول أن يختلط بهم قط. أثار مشهد ذلك العجوز الفضول لدى على لا سيما عندما يراه كل ليلة فى موضعه لا يبدل مكانه ولا يغير عاداته.
اشتعلت جذوة الفضول لدرجة أنه قرر أن يقتحم خلوة ذلك العجوز ويشاركه قتل الوقت بطريقته التى لم يجربها من قبل. ذات مساء ذهب مبكرًا عن موعده وجلس فى منضدة قريبة من منضدة ذلك العجوز التى اعتاد الجلوس عليها وعينه ترقب وصوله. حتى بعد توافد أصدقائه ودعوه ليذبح معهم الوقت بأداة الدومينو الحادة اعتذر متحججًا بالصداع على غير عادته. يمر الوقت والدقائق وربما الساعات ولم يحضر العجوز فى هذه الليلة. توالت الليالى وعلى يترقب وصوله للمقهى لكنه لم يحضر والفضول كاد يحرق على من سخونته. بدأ يسأل عمال المقهى ورواده عنه لم يزد أحد شيئًا عما يعرفه عنه. عاد لذبح الوقت بطريقته المعتادة وبدأت جذوة الفضول فى الخمود لكنها لم تنطفئ تمامًا. أحد أصدقاء المقهى نصحه بأن لا يشغل باله بهذا العجوز قائلًا: مَنْ فى مثل سنه مرشح أن ينال لقب مرحوم فى أى وقت فهو مرحوم محتمل.
فى يوم حار كان على عائدًا من عمله والشارع الرئيسى فى المدينة المزدحم فى عادته كان مزدحمًا أكثر من أى يوم لدرجة الاختناق وكان على يركب سيارة ميكروباص تتلاحم الأجساد فيها وحرارة الجو مع حرارة الأجساد كادت تلهب جسده. اخرج رأسه عله يجد هواءً يعينه على الاستمرار حيًا أتى الهواء محملًا بعادم السيارات لكنه لمح ذلك العجوز وهو يتخطى بين السيارات حاملًا لفافته المعتادة من الجرائد والمجلات.هب واقفًا من هول المفاجأة ارتمت رأسه بسقف السيارة، نسى أنه بداخلها، تحركت السيارة دون أن يحدد اتجاه سيره لكنه أيقن أنه ما زال حيًا يُرزق ولم ينل بعد لقب المرحوم ما زال حيًا محققًا.
توقع حضوره للمقهى فى المساء لكنه لم يحضر. فى اليوم التالى مر من نفس الشارع مترجلًا بعد خروجه من عمله لكن لم يره ولم يقابله.
عزم على أن يتفرغ يوم الجمعة من الصباح حتى المساء ليبحث عنه فى هذا الشارع المترف كيف يعيش فيه ذلك العجوز؟ حتى لو أراد أن يستأجر شقة ولا يملكها فإيجارها باهظ.
بالفعل ذهب لصلاة الجمعة فى أحد المساجد فى نفس الشارع والقريب من المكان الذى كان يمر منه العجوز. كان يتطلع فى أوجه المصلين عله يجده، لكن هيهات.
بعد صلاة الجمعة دعا خطيب المسجد الحضور لصلاة الجنازة على أحد قاطنى الشارع لكن على لم يعرف للعجوز اسما، لا يستطيع أن يحدد إن كان هو أم لا، إلا إذا رأى وجهه.
عندما هب ليصطف فى صلاة الجنازة لمح شخصًا من الخلف مثل ذلك العجوز بنفس هيئته ويرتدى نفس بدلته. عرف أنه ما زال حيًا بل حيًا محققًا.
أسرع على بالخروج من المسجد بعد صلاة الجنازة حتى يراه وهو خارج من المسجد. تحركت الجنازة وفرغ المسجد من الحضور ولم يخرج العجوز بعد. اتجه نحو دكان صغير أمام المسجد يشرب زجاجة مياه غازية باردة لا سيما إن كانت مشبرة وهو متعض لما يحدث له.
احضر صاحب الدكان زجاجة مشبرة من الثلاجة وهو كاد يحدث نفسه. سأله على: ما لك يا عم؟
رد قائلًا: تخيل يا أستاذ إن الراجل المحترم سالم بيه يموت فى شقته ومحدش يعرف.
-: إزاى؟
-: أولاده سيبينه ومسافرين، مفيش حد بيسأل عليه خالص. سكان العمارة شموا ريحة صعبة جدًا طالعة من الشقة بتاعته، كسروا الباب لقوه مرمى على الأرض والجرايد والمجلات اللى كان يتسلى بيها مرمية على الأرض حواليه.
هز على رأسه بأسى قائلًا لنفسه: أخيرًا نال اللقب، أصبح مرحومًا محققًا.