رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن المجاعة النقدية والكتب الرديئة


قبل سنتين عقدت ندوة لمناقشة روايتى "عيّاش"، وأثناء الندوة تطرق أحد النقّاد الحاضرين للمشاهد الإيروتيكية في الرواية، واعترض على بعض المفردات التى رأها "مشينة" و"خادشة". كنت أكتم ضحكة في داخلي، لكني في اللحظة نفسها كنت أشعر بالغيظ من الحكم الأخلاقي الخالي من أى معايير فنية وجمالية، لولا أن أنصفني من بين الحضور الروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد الذي فنّد هذا الحكم الأخلاقي، وأشار بوضوح إلى أن مسألة الجنس في الأدب تمّت الإجابة عليها قبل مئات السنين وأن معيارها الرئيسى هو الضرورة الفنية، والشعر والنثر العربي القديم يشهدان على ذلك.

بعد الندوة كنت مندهشًا من ضحالة ذلك الناقد والأكاديمى، وسألت نفسي: ماذا يعلّم مثل هؤلاء للطلبة في الجامعة؟ وأى جرأة سمحت لهم أن يطلق الواحد منهم على نفسه لقب "ناقد"؟ لكني حاصرت دهشتي سريعًا وذكّرت نفسي بأن النقد في العالم العربي بعافية شوية، وفى مصر بعافية شويتين تلاتة.

سبق وأن حذر الراحل علي الراعي مما أسماه "المجاعة النقدية".. وأعاد صلاح فضل تذكيرنا بهذا التحذير في كتابه "المرأة وتحرير المجتمع". وكلا التحذيرين لم يجنبا الأدب المصري هذه المأساة، مأساة غياب النقد، غياب له العديد من التجليات، كقلة النقاد الجادين أصحاب المشروع، مقابل وفرة – نسبية – في أنصاف وأشباه النقّاد الذين يذكّرونني بلاعبي الدرجتين الثانية والثالثة، بل وحتى دوريات الشوارع والكؤوس المدرسية.

أستطيع القول بثقة ويقين إن الكثير من النّقاد المصريين الناشطين على الساحة (وهم قلّة بطبيعة الحال) محدودون معرفيًا وأيضًا محدودون على مستوى الذائقة، وقبل هذا وذاك يعانون من أزمة في وعيهم بالأدب وفن الرواية بالتحديد، فيستطيع الواحد منهم أن يستطعم ويبلع نصًا خفيفًا وتقليديًا ذا بهارات زاعقة، لكنه لا يستطيع أن يهضم بعض النصوص التي تخرج عن النمط البسيط المعتاد، هؤلاء يؤذيهم التجريب والكتابات الطليعية التجريبية، وتسبب لهم تلبّكات معوية وعقلية، ولا يفهمون روايات الميتاليتراتورا (الكتابة التى تتخذ من الكتابة موضوعاً لها) مثلًا، ويرون أن الفانتازيا المنزّهة تمامًا عن الواقع كتابة من الدرجة الثانية، وروايات الحدث صفر والرواية الذهنية هراء، ويعتبرون روايات البيكاريسكو (رواية الصعاليك والشطّار أو البطل السلبي) مدعاة للفسق والفساد، يريدون رواية تشبه روايات البوكر، بالنسبة للخط الزمنى فهي تبدأ صباحًا وتنتهي مساءً وتناقش همًا اجتماعيًا عبر قصص أبطالها، همٌ كالعلاقات الإنسانية أو الحروب أو الهجرة أو التمييز العنصري.

هؤلاء هم سلفيو النقد، وهم يدينون بدين سلف قريب ليته حتى سلف راسخ، سلف بدأ مع الألفية الجديدة في المشرق العربي عبر جوائز تعبنا من القول إنها تفتح منصات وخطوط إنتاج لقوالب نمطية، في الوقت الذي يعرّف فيه باختين الرواية بأنها "الجنس الأدبى الوحيد الذي يرفض الاكتمال"!.

أدى هذا الفقر النقدي الفادح- كمًّا وكيفًا- إلى غياب معيار واضح لقياس جودة النص الأدبي، فسادت الفوضى، وانتشر الأدب التجارى والكتابات الخفيفة بوصفها سقف الإبداع المصرى (هذا بخلاف رغبة أفراد وجهات غير مصرية في تصدير الأنصاف لتقزيم صورة مصر وقوتها الإبداعية الناعمة.. لكن هذا موضوع آخر)، بل وبات هذا التيار في صدارة المشهد، فأصبح معتادًا أن نرى روايات أحمد مراد ومحمد صادق وقد صارت أفلامًا، وأصبحت كتب الرعب والجان والعفاريت والسحر ضيفًا دائمًا فى قوائم الأعلى مبيعًا، وحضرت أعمال عجيبة في منصات التتويج المصرية والعربية، وحدث أن أدمنت قطاعات واسعة من القرّاء تلك الكتابات، بل وباتوا على عداء مع الأدب الحقيقي الجاد سواء كان كلاسيكيًا أو طليعيًا تجريبيًا.
وبالمناسبة، هذا الإدمان على الردىء لا يقتصر على الأدب فحسب، بل يمتد إلى فنون أخرى كالدراما والسينما والموسيقى.

ووسط هذه المحنة الثقافية، تومض بعض الأقلام النقدية النادرة، من أصحاب الذائقة والمشروع والثقافة الواسعة، أذكر منهم يسري عبدالله ومحمود عبدالشكور وشاكر عبدالحميد وحسين حمودة وشيرين أبوالنجا ومحمد بدوي وهويدا صالح ومحمد محمود حسين، وهذا الترتيب وفقًا لورود تلك الأسماء المعدودة على ذاكرتى. ويتميز هؤلاء بقدر وافر من الثقافة حتى إن الكثير منهم يغطى أكثر من حقل واحد، فشاكر عبدالحميد ناقد أدبي وأستاذ لعلم النفس وناقد في الحقل التشكيلى ومترجم، ومحمود عبدالشكور ناقد سينمائي إلى جانب كونه ناقدًا أدبيًا، وهويدا صالح روائية وناقدة.. إلخ.
لكن ماذا تفعل باقة ورد وسط صحراء قاحلة؟