رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"السايكلوب".. فصل من رواية إبراهيم عبدالمجيد الجديدة

إبراهيم عبدالمجيد
إبراهيم عبدالمجيد

كيف صار الطريق الصحراوى واسعًا إلى هذا الحد. آخر مرة رأيته فى السبعينات كان ضيقًا جدًا. حارتان صغيرتان للذهاب والإياب. أشياء كثيرة تغيرت فى مصر ولا يجب أن أندهش. المهم أن نستريح فى الرست هاوس. أجل. أنا لا أنسى أغنية شادية وفاتن حمامة التى طالما سمعتها وأنا صغير «آلو آلو إحنا هنا» وفاتن تسأل شادية: «فين صحراء مصر الغربية» وشادية ترد: «بعد الرست هاوس بشوية». يا إلهى. عرفت أن فاتن حمامة ماتت وشادية ماتت. شادية التى فتحت هاويس الماء للأرض الشراقى فى فيلم شىء من الخوف. «زواج عتريس من فؤادة باطل». شعار مظاهراتنا فى أوائل السبعينات. وعلى طول السبعينات. وكثيرًا ما سمعت الشعار نفسه فى فيديوهات ثورة يناير. عتريس لا يموت وفؤادة لها عشرات الأرواح وإلا ما استمرت مصر آلاف السنين. لكن لماذا حقًا ينتقل سامح إلى الإسكندرية بسيارته «الأفيو» التى لم تكن موجودة فى مصر وقت أن كتب الرواية. والتى لم يستخدمها حين ذهبنا إلى السفينة علاء الدين لا أدرى لماذا. لماذا وهو القادر على بعثى من العدم وسبق له أن أتى بيارا إلى مركب علاء الدين لا ينتقل بى إلى الإسكندرية فى لحظة. لماذا وأنا الشبح لا يجعلنى أطير به؟.
رحت أتحسس جسدى فأجد لحمًا ودمًا. فكرت بجد أن أكون شبحًا وأحمله إلى يارا لكن يدىَّ تلمسان جسدى ويتأكد لى أنى من لحم ودم. لا يريد الآن أن يبعث فى قوة التحول. ماذا يمكن أن يحدث لو طلب منى سامح أن أقتل أى شخص. أن أرتكب أى جريمة، لقد جئت فى زمن الإرهاب والدولة التى تقبض على كثيرين بسببه ويمكن جدًا أن أجد أمامى من يتهمنى بذلك لأنى لا أحمل أى بطاقة هوية ويجعلنى سامح أقتله ولا أتحول إلى شبح، ويتم القبض علىَّ ويتم إيداعى السجن ولا يعرفنى أو يسأل عنى أحد. ورحت أتخيل التحقيق الذى يمكن أن يُجرَى معى:
- اسمك؟
- سعيد صابر.
- اسمك كاملًا.
- لا أعرف غير هذا الاسم.
- عنوانك؟
- لا أعرف. فى الرواية كنت أسكن فى حدائق القبة وفى نهايتها غادرت مصر؟
- أنت بتستعبط؟
وأحاول أن أكون شبحًا فلا أستطيع ويبدو الهم على وجهى وأقول وأنا أكاد أبكى:
- يا أفندم أنا لست إنسانًا حقيقيًا، لكنى شخصية فى رواية كتبها سامح عبدالخالق الكاتب المعروف ووجدت نفسى أعود إلى الحياة الحقيقية التى لم أكن فيها أصلًا.
- أيضًا تستعبط لأننا بحثنا عن شبيه لصورتك فوجدنا ملفًا لدينا بقضيتك فى الحزب الشيوعى آخر السبعينات من القرن الماضى. هل أقول لك عن زملائك. هل تحب أن نأتى بهم هنا يتعرفون عليك. نصفهم مات ونصفهم حى والنصف الحى يكفينا دليلًا عليك.
لم أرد. لم أسأل هل هم شباب مثلى أم عواجيز الآن؟، الأمر الوهمى صار حقيقة. لا بد أن أطلب من سامح أن يطلق سراحى. لا أريد أن أكتب رواية ولا أى شىء.
فى اللحظة التى هززت فيها رأسى وضربت جبهتى دهشة وجدت أمامنا سيارة نقل كبيرة تحمل عددًا ضخمًا من الحمير الحية وتسبقنا رغم سرعة سامح بسيارته. ابتعدت عنا لكنى كنت ما زلت أراها صامتًا من دهشتى من هذا العدد من الحمير. إلى أين تذهب بهم السيارة؟. لم تغب الإجابة ورأيت السيارة تنحرف يمينًا فى طريق لا يظهر وتبتعد. اقتربنا من الطريق فرأيته ضيقًا غير مسفلت وكانت السيارة قد ابتعدت كثيرًا فيه. سألت سامح:
- هل رأيت السيارة النقل التى تحمل الحمير؟
أجاب:
- أجل. ما المشكلة؟
- كانت مسرعة جدًا ثم انحرفت إلى الطريق الضيق. هل يبيعونها هناك مثلًا؟ هل هناك سوق للحمير؟
- لم أسمع بسوق للحمير هنا.
ثم ضحك وقال:
- ربما سيذبحونها فى مكان ما.
سكتُ لحظات أتذكر كيف أحيانًا كان يتم القبض على بائع للحم الحمير لكن كان الأمر أشبه بالنادرة. قال:
-لا تندهش. هذا أصبح عاديًا فى مصر. لحم الحمير تبيعه المطاعم الكبرى أيضًا. ادخل على الإنترنت واكتب على جوجل قضايا بيع لحم الحمير.. لن تصدق.

سكت ومشى قليلًا بالسيارة ثم وجدته يتوقف أمام استراحة بها كافتيريا اسمها «ماستر». مكان كبير متسع فيه محطة بنزين وأكثر من كشك جميل يبيع أحذية وحقائب وملابس وموبايلات وعليها أسماء لم تكن فى زماننا مثل فودافون وأورانج ومقاعد متفرقة فى أكثر من مكان لكنه قال لى:
- نتناول إفطارنا فى الداخل حيث التكييف أفضل من الهواء الحار هنا.
سألته:
- هل الريست هاوس بعيد؟
أجاب وهو يشير وراءه:
- الريست هاوس هنا على الناحية الأخرى وكما ترى قامت مبان أمامه فلا تراه.
ثم ضحك وقال:
- لقد فقد كثيرًا من جماله من زمان. كما أنك لن تجد فيه شادية ولا فاتن حمامة.
دخلنا إلى «ماستر». أعداد كبيرة تجلس حول المناضد أمامها الشاى والقهوة والطعام والماء. وبينما طلب هو لنا باتيه بالجبن مع الكابتشينو، كنت أنا أنظر فى قائمة الطعام التى بها أسماء لوجبات كثيرة لم أعرفها من قبل. ربما كانت موجودة فى زماننا لكنى لم أجربها. حمدت الله أنه طلب ما أعرفه. باتيه. كنت آكله فى جروبى فى شارع طلعت حرب وأحيانًا فى سيموندس بالزمالك. تقدمت منا امرأة جميلة متوسطة العمر فى ثياب أنيقة ودون حجاب. وقفت باسمة تسأله:
ضحكنا وكنا انتهينا من الطعام
- هيا معى إلى بائع الكتب ألقى نظرة على كتبى.
مشى أمامى فمشيت خلفه. انحرف يسارًا فى ممر ضيق يؤدى إلى دورة المياه فرأيت أكثر من مكان لبيع التحف وبينها مكتبة صغيرة حافلة بالكتب. البائع ما إن رأى سامح حتى تهلل وجهه ووقف يصافحه:
- أهلًا أستاذ سامح. نورتنا.
- أهلًا بك. ما هى أخبار روايتى الجديدة؟
- تمام. ما يصلنى منها ينفد دائمًا وفى انتظار كميات جديدة.
وقفت أنا أقلِّب فى بعض الكتب أمامى. أسماء مؤلفين لم أعرفهم من قبل. ترجمات لروايات أجنبية لمؤلفين لم أعرفهم أيضًا من قبل. وإذا ببائع الكتب يسألنى:
-هل تبحث عن كتاب بعينه؟
قلت:
-لا. حب استطلاع فقط.
وإذا بسامح يقدمنى إليه قائلًا:
- نسيت أقول لك. هذا صديقى سعيد صابر. بطل الرواية مع صابر سعيد. لا بد أنك تذكرها.
ابتسم البائع لحظة وبدا يفكر ثم قال:
- حلوة يا أستاذ سامح. تظننى سأصدق. أنا قرأت الرواية وقت صدورها وأحداثها كلها فى السبعينات، والرجل أمامى شاب ربما لم يبلغ الثلاثين!، صحيح هو سالفاه طويلان مثل سوالف الشباب فى السبعينات وشعره منعكش، لكن شباب كتير شعرها منعكش الآن.
- أنا لا أكذب. أنا استعدته من الرواية. قلت يشوف ماذا جرى للبلاد والعباد.
هز الرجل رأسه مبتسمًا وقال:
- حلوة فكرة الرواية الجديدة دى. تفضلا بشرب القهوة عندى.
- شكرًا. إلى اللقاء.
قال سامح ذلك وصافح الرجل ومشينا وأنا فى حيرة شديدة. ما إن جلسنا فى السيارة حتى سألته:
- كيف فعلت ذلك؟ الرجل يمكن أن يصدق وينتشر الخبر.
- لا تقلق. هو ذكى ومثقف. ألا ترى أنه اعتبر الأمر فكرة رواية جديدة؟ إذن نحن على الطريق الصحيح.
كانت وساوسى قد قفزت بعيدًا. أن ينشر الرجل الكلام كأنه حقيقة على فيسبوك مثلًا. وإن تتم مراقبة سامح وما يستعيده من شخصيات وتُنسب إليها كل الجرائم التى تحدث فى البلاد.

لم أجد رغبة فى استطلاع ما بقى من الطريق. وحين وجدت نفسى أجلس معه فى مقهى أتينيوس رأيته وقد تجهم فجأة ويقول:
- ليس هذا أتينيوس الذى أعرفه.
كنت أعرف أتينيوس. وفى زياراتى القليلة للإسكندرية جلست فيه لكنى نسيت ملامحه. كنت غير مهتم بما يقول وأفكر كيف لم تتغير هيئته وظل فى السبعين طوال الطريق. تصورت أنه بمجرد دخوله هنا سيصبح شابًا وستأتى يارا شابة كما حدث فى سفينة علاء الدين. لم أسأله. قلت فى نفسى: لا بأس. سيكون للرواية وجوه كثيرة، لكنه قال فى ضيق:
- لا أعرف معنى هذا الدهان الأبيض اللامع للجدران. أنظر الى النقوش العالية التى تصور الأساطير اليونانية. لقد دهنوها باللون الذهبى الفاقع فصارت ممجوجة. كان كل شىء هنا يوحى بالقدم والعراقة. لا ينقصهم إلا أن يجعلوا الأرض من سيراميك الحمامات. تمامًا كما تفعل المحافظات مع الأرصفة فى عموم البلاد.
وظهر عليه الضيق أكثر وهو يستمر فى الحديث:
- أنا أعرف صاحب المحل وهو رجل مثقف جدًا. بل هو صديقى. لا بد أنه باع المكان.
وسكتنا لحظات ثم قال:
- لولا أنى مضطر لانتظار يارا لما جلست هنا. كنت أحب هذا المكان جدًا. أعرف تاريخه وكتبت عنه فى رواياتى كثيرًا. كم التقى هنا من جنود فى الحرب العالمية وكم التقى هنا من قادة وفنانين وكتاب من العالم. نجيب محفوظ كتب روايته «ميرامار» هنا فى هذا الركن البعيد. ميرامار الفندق كان فى عمارة قريبة من هنا. كفافيس كان يجلس هنا وداريل وهارى تزالاس وغيرهم. فرق مسرحية عالمية كم جاءت إلى هنا. فى السبعينات كان ملهى «كريزى هورس» هنا حافلًا بفرق الشباب الموسيقية. أبطال روايتى التى ظهرت فيها يارا كانوا يجلسون هنا يستعيدون أمجاد المدينة.
وزاد الضيق على وجهه حتى ظننته سينهض يتشاجر مع الجرسونات أو يبحث عن صاحب المحل صديقه ويتشاجر معه. قلت:
- على رسلك يا صديقى الطيب. وهل هذه أصلًا الإسكندرية التى عرفناها زمان. إنه لقاء مع يارا ثم نعود فتحمل. إن الدخول إليها فقط أقرب إلى الجحيم.
وإذا بسيدة عجوز تدخل وتقترب منا وهى تتكئ على عكاز. رأيته ينظر إليها فعرفت أنها يارا. ليست هى الشابة التى استدعاها إلى السفينة «علاء الدين» لكنها تحمل وجهها وإن بدت عجوزًا وشعرها شديد الصبغة السوداء. هذه يارا الحقيقية إذن. راندا التى فجأة ما إن جلست حتى بكت أمامه وقالت:
- رغم أنى تزوجت وأنجبت لم أنسَك يومًا. كثيرًا ما بكيت ولا يعرف زوجى أنى أبكى من أجلك حتى إنه من كثرة بكائى اعتبرنى مجنونة. أكثر من مرة هددنى بالطلاق إن لم أكف عن البكاء الذى لا يعرف سببه. وذات مرة قال لى إنه يعرف أنى أبكى لأنى لا أنساك.
- وكيف استمر يعيش معك؟
- فارق السن الكبير بينه وبينى كان يجعله يصبر. فى النهاية بعد هذه السنين الطويلة نسى الأمر ونسيت أنا حتى ظهرت أنت من جديد وذكرتنى بكل شىء. لماذا ظهرت من جديد فى حياتى؟ ألم يكفك ما كتبته عنى من رواية وشعر وشهرتك الكبيرة حتى تعود إلى جحر الفئران؟.
وسكتت يارا لحظات شاردة ثم تساءلت: كيف حقًا أعدتنى شابة فى القاهرة؟
تردد سامح مرتبكًا ثم أجاب:
- استعدتك شابة كما كانت شخصيتك فى الرواية. الآن نحن شخصيات حقيقية.
قالت وقد وضعت رأسها بين يديها:
- أنا غير قادرة على الفهم يا سامح. أشعر أنى دخلت منطقة من السحر. زوجى يكاد يُجَن وهو يرانى فى البيت عجوزًا بعد أن سافر ورائى إلى القاهرة ورآنى شابة.
كنت أسمع ذلك مندهشًا وأحفظه لأكتبه وأتعجب أنها لا ترانى ولا ترى البيرة التى أشربها معهما على المنضدة نفسها. من يدرى ربما ترانى ولا تهتم أم حانت اللحظة التى جعلنى سامح فيها شبحًا غير مرئى.

وجدت نفسى أترك مكانى ولا أعرف إلى أين أذهب. لقد صرت شبحًا غير مرئى بحق. دخلت بيت يارا فوجدت الرجل العجوز زوجها الذى يبدو الآن فى التسعين من عمره يجلس وحيدًا فى الصالة. هو نفسه الذى ظهر فى المركب «علاء الدين». حاولت العودة فلم أستطع. أرسلنى سامح لا بد لأنى أتقدم لأخنق الرجل بيدىَّ ولا أستطيع أن أقاوم ذلك. لم يكتف سامح بما قاله لى إنه يريد للرجل أن يحزن ساعة قبل أن يموت. لقد استحضرنى لأرتكب الجرائم التى كان يتمنى أن يقوم بها. لكنى ما كدت أمسك بخناق الرجل حتى وجدته باردًا كالثلج. لا حركة ولا نبضًا. الرجل مات فى مكانه قبل أن أقوم أنا بذلك. عدت إلى مكانى فى أتينيوس أنظر إلى سامح وأهمس له وأحرك رأسى وأعرف أنه يرانى وحده موحيًا له أن الجريمة تمت. وجدته يقول ليارا:
- لم أكن أطمع إلا فى رؤيتك لنتذكر أيامًا لن تعود. تمنياتى لك بالصحة ولأولادكِ بالسعادة ولأحفادكِ يا حبيبتى. وبالمناسبة هل قرأتِ حقًا روايتى التى كتبت فيها قصة حبنا؟
- أختى قرأتها وحدثتنى عنها بالتفصيل. لم أشأ أقرأها حتى لا أحيى الآمال الضائعة. أختى كانت تعرف علاقتى بك وحدثتنى عن كل ما كتبته رغم أنك لم تذكرها فى الرواية. خفت أقرأها فيزداد بكائى وقد أقتل زوجى. يقظة الماضى صعبة.
وقبّلها سامح وهى تهم بمغادرة المكان لكن الموبايل فى حقيبتها دق فتناولته وردت:
- نعم يا حبيبى.
-.........
- ماذا تقول. بابا مات. عدت لتجده ميتًا فى مقعده فى الصالة. تقول قُتل؟، كيف؟..
صرخت وتركتنا مسرعة حتى كادت تسقط وهى تتوكأ على العصا بينما وقف سامح مندهشًا. ما إن ابتعدت حتى ابتسم وقال لى:
- إذن فعلتها؟
لم أرد. أنا لم أقتل. لا بد أن أحدًا كان قد دخل قبلى وقتله. لم أخبره. تركته فى سعادته وخياله.