رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دولاب معتم

جريدة الدستور

فتحت الفتاة دولابها ووقفت تنظر لملابسها قليلًا، قبل أن يرن هاتفها ذهبت لتحضره من خارج الغرفة، دون أن تسمع الأصوات المتهامسة التى كانت تتصارع خلفها، صرخ المعطف: «هذا يومى.. لم أر الشارع منذ فترة طويلة جدًا».
قاطعه الجاكيت: «كلانا أبيض فلماذا ترتديك وتتركنى»، قالت «الجيبة» القصيرة فى حسرة: «أناسب كليكما.. ومستعدة أن أخرج مع أى منكما، لكنها لم تعد ترتدينى كثيرًا.. تقول إننى أصلح فقط فى بعض الأماكن (النظيفة)، ويبدو أنها لم تعد تذهب إلا إلى هذه الأماكن التى ترفضنى.. فلماذا لا ترتدينى ثم تغسلنى حين أتسخ؟.
أجابها السروال: «تفضلنى عنكِ، لأنكِ تتسببين فى أن يمسها بعض الرجال بأيديهم المتسخة كلما ارتدتك.. أما أنا فأحميها منهم». استفزها رد السروال فقالت له: «لكنك تتسخ أيضًا.. فلماذا لا تغسلنى مثلما تغسلك؟» نطق الـ«جاكيت» ليفصل بينهما: «ربما بقع تلك الأيدى لا تُنظف بسهولة، مثل البقع الأخرى!».
«على الأقل جميعكم ترون الشارع حتى ولو على فترات متباعدة، أما أنا فلم أعد أغادر هذا الدولاب منذ أن ضل مسمار أحمق طريقه بداخل أحد أكمامى، ولم يخرج قبل أن يصنع ثقبًا بها» قال «البلوفر» فى ضيق.
عزاه سروال آخر: «يمكن إصلاح ثقبك بسهولة، أو إخفاؤه أسفل جاكيت أو معطف، أما أنا فحالى أصعب بكثير، فرغم أنه ليس بى أى ثقب أو قطع، لكن لا يمكننى رؤية الشارع مرة أخرى.. صرخت بها كثيرًا وهى ترتدينى بأن تتوقف عن تناول هذا الطعام فى تلك المطاعم، لكنها لم تتوقف، حتى جاءت لترتدينى ذات يوم، ولم أستطع الصعود إلى أعلى كما أفعل دومًا، كان خصرها أكبر من فتحتى، ورغم ذلك اتهمتنى بأنى صرت ضيقًا، أقسم إننى لم أضق ولم أتغير منذ أن صنعونى، لكن خصرها هو الذى صار أكبر». ضحكوا جميعًا عدا الطقم الرياضى، الوحيد الذى شعر بآلام السروال من بينهم، قال له: «أضمن لك أنها سترتديك مرة أخرى، إذاعادت لترتدينى، المشكلة هى أننى لا أعرف متى تعود لارتدائى!».
«جميعكم تتذمرون رغم أنكم خرجتم كثيرًا، أما أنا فلم أذهب إلى الخارج، ولو مرة واحدة منذ أن جئت إلى هنا، كانت سعيدة وهى تقيسنى فى بروفة المحل، أخبرت صديقتها بأنها ستشترينى حتى ترتدينى حين تخرج فى سهرة معه، لكنى لم أرِ الشارع مرة واحدة بعدها ولم أرِ حتى هذا الذى اشترتنى من أجله، أتت بى من فوق المانيكان التى أحببتها، والتى طالما تندرت معها على السائرين أمام زجاج المحل طوال اليوم، لتلقى بى هنا داخل هذا الدولاب المعتم!» قال الفستان الأحمر.
جاءت الفتاة فصمتوا جميعًا، أخذت من بين الملابس معطفًا أسود، ثم أغلقت الدولاب على أصوات غاضبة من عدم عدلها بينهم، لأنها ارتدت هذا المعطف أكثر من مرة فيما سبق، ومنذ أن بدأت فى ارتدائه تلك المرة، لم تعد تلبس غيره.
وحده المعطف الذى لم ينطق بكلمة طوال الحديث السابق، كان يعرف لماذا صارت الفتاة ترتديه فى الآونة الأخيرة، لكنه لم يخبرهم حتى يظل متباهيًا أمامهم بتفضيلها له عليهم، سيحتفظ بالحقيقة التى يعرفها حتى بعد أن تتوقف عن ارتدائه، وتعود مرة أخرى لارتداء باقى الثياب، أبدًا لن يقول لهم إن ألوانهم لا تصلح الآن لحزن بحجم الموت، ولن يبشر «السروال» الذى ضاق بأنها سوف تعود لارتدائه بعد أن صغر خصرها مرة أخرى، منذ أن فقدت شهيتها، كما لن يخبر الفستان الأحمر بأنه لن يرى هذا الشخص الذى جاء من أجله.. أبدًا.