رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بالحَجْم الملكى

جريدة الدستور


كنتُ مستلقيًا على الفراش الممدود فى ساحة قصر ملك بلاد ليليبوت، عندما اقتربَتْ كبرى وصيفات الملكة، ممسكة أمام فمها بوقًا واسع الفوّهة، وحدثتنى عبره وقالت:
«سَوف يُسعِد جلالة الملكة أن تُدبِّر شيئًا يُسرّى عن ضيفها السيّد جاليفر».
عَلى قدر إلمامى بلغة أهل هذا البلد صِغار الحجم، قد تكون للفعل «يُسرِّى» معانٍ متباينة، قد تبدأ من تحريك الهواء قرب وجه أحدهم بمروحة من ريش، وقد لا تنتهى باصطحابه إلى نزهة خلوية طَلبًا لمتعٍ بريئة أو غير بريئة، فماذا تقصد على وجه التحديد تلك الملكة المُحتجبة فى جناحها وراء الأبواب والحرس؟ لكن، وأيًّا كان المعنى المضمَر فى جملة الوصيفة، لا بدَّ أنَّ الملكة ترغبُ فى التسلية على حسابى. تصنّعتُ البراءة، وسألتُ الوصيفة ذات الوجه الأسمر المتطاول مثل قناع بدائى بحجم تمرة: «عن أى نوعٍ مِن التسلية نتحدّث هُنا يا حُلوة؟».
ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ ماكرة وعكست أسنانها ضوء الشمس، ثم أجابت: «إن ألف امرأةٍ مِن شَعبنا قد يعادلن فى الفراش امرأةً مِن بلادكم، وبوسعنا إذا شئتَ الشروع فى استدعائهنّ وإعدادهنّ على الفور».
منذ اليوم الأوَّل لنزولى ضيفًا عليهم، وأنا أشعرُ بعينَى الملكة تترصّدانى أينما ذهبت، غير أننى لم أرها ولو مرةً واحدة. الملك حاضرٌ طيلة الوقت وفى كل موضع، حَتّى عندما يغيب، مثل الآن. حاضرٌ بشخصه أو بصوره وتماثيله، حاضرٌ بالحُجّاب والحرّاس والرُّسل والوزراء، وإن لم يأمر ويَنهِ مباشرةً. لكنَّ حضوره المفرط غَيّبه عنى، أبعده عن ذهنى حَتى وأنا أسمعُ حديثه، فكأنّه مُعتمٌ مهما لَعلَع، وكأنّه أبكم مهما جَعجَع. أمَّا هى فحاضرة، فى كل ركن وفى كل لحظة، ومن غير صور لها أو تماثيل، فى جميع لمسات الضيافة وفى اختيار طعامى وشرابى، وفى الثياب الجديدة التى أشرفتْ بنفسها على تصميمها وحياكتها، فكأننى أراها وأسمع صوتها فى أطراف المناديل وفى مياه طاسة غسل الوجه، فضلًا عن خدمها من الخصيان والجوارى ممن لا ينقطعون عنى ليلًا أو نهارًا، فى انتظار تلبية إشاراتى وتحقيق أحلامى. وها هى كبيرتهنَّ، اسمها يصعب نطقه علىَّ، لكن قيل لى إن معناه الولود، تنتظر إجابتى على عَرضٍ فاحش تقدمت بها ربتها أخيرًا وقد أمنت الرقيب، بعد أن غادر الملك لمواجهة اضطراب عاجل على الحدود.
«ولِمَ لا؟ فليكن غدًا، فى نفس هذا الموعد، وفى نفس هذا الموضع، هكذا تحت السماء المكشوفة وقرب هذه البُحيرة»، هكذا أجبتُ الوصيفة السمراء، فأسرعتْ تنقل الموافقة على تحضير المسرحية الإباحية لصالح الملكة. أتمنى لها أن تستمتع بمشاهدةٍ طَيبة مِن مخبئها الغامض، هذا إن لم تشرّفنا أخيرًا بظهورها. تركتهم يستعدون واستسلمتُ لخيالاتى مع كئوسٍ من شرابهم الحارق وثمار من فواكههم المتفجرة بالعصائر الحلوة والمكتنزة بالأنسجة الطرية. ماذا تريد تلك المرأة الخفية؟ لعلّها تودّ أن تتصفّح سريعًا كتاب العمالقة الحَى هذا، الممدد أمام شرفتها، وقد أرسلته لها الأقدار لينجدها مِن ضجر البلاط. أو لعلَّها تخطط لقراءته بتأنٍّ ومُطالعته كاملًا من الغلاف للغلاف، ولكن أنَّى لها ذلك وهى فى حجم هذا الخنجر المرصع بالجواهر. لكنَّ جشع أهل البلاط الملكى لا تعترضه حواجز العقل أو الطبيعة.
مِن ناحيتى، كرَجل إنجليزى ناضج، صحيح البدن وسَوىّ الطبيعة، كنتُ أتحرَّق لجسد امرأة، امرأة حقيقية أقصد وليس خيالًا أستدعيه قبل النوم وأرى طيفه على الوسادة، امرأة بالحجم الطبيعى للنساء فى الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس. إلى جانب هذا الجوع الوحشى، لم أعد أجد أى متعة فى وجودى هُنا، وسرعان ما تبدَّد رونق الدهشة الأولى، ولم يبقَ غير ضوء الشمس المفترس هذا. حتى انبهار أهل البلد بى ترسَّب مع الوقت، وهدأ فزعهم عند رؤيتى أوَّل الأمر، ثم صرتُ مجرّد مَعْلَم سياحى للزيارة والفرجة، أعجوبة فى سيرك. كانوا يتجمّعون حولى، فى أثناء جولاتى، وقد سافروا من أبعد القرى ونزلوا من على رءوس الجبال لإلقاء نظرة على ذلك العملاق، وكنتُ أغتاظ من مراقبتهم لى، وأحيانًا أصرخ فيهم مُطلِقًا زئيرًا وحشيًّا فيتدافعون فزعين. لن أنكر لذتى بإحساس الضخامة والقدرة، لكنى فى بعض اللحظات لم أعد أعرف مَن مِنَّا الوحشى ومَن المتحضّر. أغرانى السأم ذات مرة أن أبول من فوق تلة عالية فأغسلُ شوارعهم ببولى، كما قد يشتّت صبى إنجليزى عندنا بيوت النمل. كل ما يفعله شخص ضخم مُبهِر لجميع الصغار، وهذا ما جعلنى أتمادى فى العبث وأتخفف مِن التقاليد واللياقة. ولعلّنى قررتُ أن أنسى الحضارة والذوق بعض الوقت، تحت تأثير شمسهم ذات السخونة القادرة على تأجيج أفسق الرغبات فى نفس أتقى الرهبان. إنما على ما يبدو، لستُ الوحيد هنا الذى يفتك به الضجر. أنا وهى صرنا شريكين الآن، وقد ننفضح ويصدر الحكم بإدانتنا معًا، وقد نوضع تحت ذات المقصلة، ثم يختلط دمى الأحمر بدمها الأزرق وتخلدُ حكايتنا. وهكذا رحتُ أتمادى فى الخيالات الصبيانية حتى رحمنى النوم من شدة الحرارة.
فى اليوم التالى تمدّدتُ شبه عارٍ، ثم توافدت النساء الصغيرات الحجم، بأجسادٍ عارية تمامًا مثل أصابع مَوزٍ مُقشَّرة، لكن بوجوهٍ مختفية تمامًا وراء براقع حريرية سوداء، بثلاث فتحاتٍ صغيرة أمام العينين والفم، بالنسبة لى كان مشهدًا غريبًا ومثيرًا أيضًا. لا بدَّ أنَّ هذا إجراء أمان طبيعى، فمِن غير الممكن أن تكون كل تلك المخلوقات الصغيرة مِن الجوارى أو الساقطات، بينهن بلا شكَّ سيداتٌ حرائر ونبيلات، يتوزّعن على الدروب المتشعبة فى حديقة المتعة السرية، وفى مركزها مضيفتى صاحبة المبادرة، التى سمعتُ أنها شقراء رغم أنها لا تنتمى إلى أصولٍ أجنبية، ولكن أين هى؟ مِن أى مخبأ سوف تتابع العَرض؟ ولماذا حرمتنى بهذا الإجراء الوقائى مِن رؤية تعبيرات الوجوه المنمنمة؟ أم لعلّها واحدة من هاتيك المقنّعات؟ ولعلَّ الهدف وراء مسألة الأقنعة كلها هو حماية هويتها هى شخصيًّا. أرادتْ الجروة الذهبية إذنْ أن تحفظ خصوصيتها وتذوبَ مثل قطعة سكَّر فى سائل الجموع، ليس احترامًا مِنها لروح الجماعة، بل لتستطيع هى نفسها أن تنسى مَن تكون وتتصرّف على راحتها، ولا تعود هى نفسها تفرّق بين النبيلة والساقطة فى داخلها. تُرى من هى وسط هذه الأمواج الصغيرة مِن الأجسام العارية ذات الوجوه المحتجبة؟ وقفن حولى متهيبات، جيشٌ من الذباب حول قرص عسل يمنعه عنه حاجزٌ زجاجى شفَّاف. ربما لا يعرفن من أين يبدأن أو كيف يتقاسمن الكعكة. حتّى أنا شعرتُ بشىءٍ من التوتر، فى تلك اللحظات التى سبقتْ صعودهن على متن جسدى. نعم، أنا الرجل الإنجليزى الناضج الذى كسرَ عذريته على يد بائعة هوى لندنية شِبه مسلولة، فى عيد ميلاده الرابع عشر، بعد أن باعَ كتب الحكايات الخرافية وأعلنَ نفسه رجلًا. لم أبادر؛ لئلا أفزعهن، أغمضتُ عينىَّ كأننى استسلمتُ للنعاس وتركتهن على حريتهن. ثم مضى دهرٌ آخر قبل أن تتغلّب إحداهنّ على الارتباك والجمود. تسلّقت كف يدى اليمنى المبسوطة على العشب، وبكل هدوء وتركيز جعلت تلعق أصغر الأصابع، وهكذا تَوَّج لسانُها خنصرى إمبراطورًا صغيرًا. انهمكتْ فى طقسها دقائق، ثم دعت الأخريات ليحذون حذوها. راقت لى الشقراء صاحبة المبادرة التى افتتحتْ الوليمة، أتكون هى الملكة؟ لماذا لا أستطيع أن أحوّل أفكارى بعيدًا عنها؟ لا بدَّ أنها ليست ضمن الحفل، بكل تأكيد تراقب الآن مِن موضع مستور، فلا يمكنها أن تجازف بقطع رقبتها إذا بلغَ الملك نبأ هذا الفجور، أم أنه متواطئ معها وربما يشاركها الآن المشاهدة ضاحكَين ومستثَارَين؟
علىَّ أن أقبل كَرَم الضيافة فى امتنان وأريحية، وأن أركّز انتباهى نحو هذه اللذة التى راحت تتنشر فى كل اتجاه على خارطة جسدى الإمبراطورى، وتلك المخلوقات الصغيرة التى ترسم لى خارطة المجد بلا أسماء ولا وجوه، مجرد عفاريت صغار، مثل تلك التى تظهر للبطل فى الحكايات القديمة، فتدبّر أموره وتحل مشكلاته، إنهم مجرد أدوات ووسائل وخطوات نحو العرش الأعلى، لا أريد أن أعرف أسماءهم وألقابهم ولا أن أرى وجوههم، لا بدَّ أن أنسى الملكة وأن أَقنع بنشوتى. لا بدَّ أن أكتفى بتلك الألسنة، المئات مِن الألسنة تنظف جسدى وتفرك رغبتى، تمسح عن رقبتى وكتفى أعباء الأسفار والمغامرات، تهمس فى أذنىَّ بهسهسة الأسرار الشرقية، وتدور حول سرة بطنى، مركز كونها المجيد.
الآن يمكننى أن أقول ما أمتع الترحال وكم مِن فوائد للسفر واكتشاف البلاد. الآن أنجحُ ولو قليلًا فى استبعاد أسئلتى حول الملكة، تحت فيضان الألسنة والشفاه والأسنان. تغطى الأجسام الصغيرة جسدى تمامًا، شموعًا لمزارٍ مقدّس، يحسبونه معبدًا لربٍّ من أربابهم الوثنية، ولو أنَّه رسول الحضارة والتمدُّن وواهب النور لهم، نورٌ هادئ عاقل، مختلفٌ عن ضوء شمسهم الوحشى. والدغدغة نورٌ آخر يسطع ويضرب فى صميم البدن واللحم والعظم، وأين الملكة؟ وشموسهم الصغيرة تقتحم الأعين المغمضة، وعجائب البلاد البعيدة كيف سأكتب عنها ذات يوم، وهل سأكتب عن هذا أيضًا أم سيبقى سرًّا لا أفضى به لأحد ولا لكتابٍ، إلَّا فى سهرات الشراب مع الأصدقاء لأثير حسدهم؟
استشعرتُ بشائر الهزّة العزيزة تتقدّم من أقصى جبال إمبراطوريتى الحَيَّة، وبدأت تتواتر قذائفُ المدفعية الملكية، فغمغمتُ لهنّ بكلام لا معنى لهم عسى أن يساعدننى على اجتياز لحظة التتويج الكبرى، ووجدتُ نفسى أتحوَّل لمتوحشٍ فى غمضة عين. نهضتُ دون إنذار، فتساقطن عن مرتفعات جسدى وشقَّت الهواء صيحاتهن. استسلمتُ لشيطان النزق فأخذتُ أنزع عمَّن أجدها فى متناولى قناعها، واحدةً بعد أخرى. شعرت الصغيرات بالغدر ونقْض الاتفاق المبرم، تسربن من بين أصابعى وقد غطَّى مائى الكثيف بعضهن تمامًا، وأنا أتلاعب بهنَّ مثل قطٍّ برى كاشفًا وجوههن وضاحكًا أمام صراخهن. تقافزن فى البحيرة فوثبت وراءهن، لم أبالِ بغرق بعضهن أو موت أخرياتٍ، فى نوبة جنونى النبيل، ولم أتراجع حتى بعد أن سمعت نفير الأبواق وصوت اقتراب الحرس المسلحين، إذ كان علىَّ أن أخوض معركتى للنهاية وأن أجد الملكة.