رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السرطان ليس عقابا على الفن


عندما وقف الفنان فاروق الفيشاوي في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية السسينمائي الدولي في دورته الحالية واعلن انه مصاب بالسرطان وانه سوف يتعامل معه على اعتبار أنه مجرد صداع يمكن التغلب عليه، ذكرنا هذا الاعلان الشجاع والرغبة في مقاومة هذا المرض الشرس بنفس الشجاعة التي أعلن بها الفنان أحمد زكي عن مقاومته للمرض وذلك في المؤتمر الخاص بفيلم حليم في عام 2004 وذلك عندما وقف بجانب المنتج عماد الدين اديب وابدى استعداده لمقاومة السرطان والانتهاء من تصوير الفيلم حتى أخر مشهد، تماما كما صرح فاروق الفيشاوي بأنه سوف يحضر الدورة القادمة من مهرجان الإسكندرية ليشارك في هذه القاهرة السينمائية بعد أن يكون هزم المرض بالفعل.

بعد كل إعلان لاحد الفنانين عن إصابته بأحد الأمراض الشرسة ينقسم الجمهور الي قسمين، الاول يبدي محبته وتعاطفه واسفه للفنان النصاب واستعداده لدعمه وتنطلق الدعوات والأمنيات بالشفاء والتعافي بينما يتحول القسم الثاني إلى حالة من التشفي والشماتة الغريبة على اعتبار أن الفنانين هم مجموعة من الفسقة والمنحلين أخلاقيا الذي تعتبر إصابتهم بالأمراض المميتة والخطيرة بانها العقاب المستحق والنهاية المتوقعة لأمثالهم من وجه نظر هؤلاء (الدواعش).

 هذا الانقسام يعكس حالة غريبة من حالات الازدواجية الثقافية ولاجتماعية في مصر والعالم العربي خاصة، علي سبيل المثال انقسم الجمهور بشكل عنيف عندما أعلنت المطربة المحبوبة "اليسا" عن تعافيها مؤخرا من مرض سرطان الثدي في مقابل سعادة قطاع كبير من محبي اغانيها بخبر التعافي ظهر على الجانب الآخر الكثير من الشامتين في مرضها على اعتبار انها اصيبت في الجزء الاجمل في جسدها كنوع من العقاب الإلهي، هذا الانقسام يطرح سؤال حول أسباب تشفي شرائح من الجمهور في مرض الفنانيين، رغم انه نفس هذا الجمهور يمارس حالة من الاستمتاع في متابعة أعمالهم سواء كانت افلام او اغنيات، فهل يرجع سبب هذه الحالة غير الانسانية إلى التفاوت الطبقي والمادي والثقافي بين ما يقدمه الفنانون وبين هذه الشرائح ام نتيجة ازدياد توغل تيار التطرف الديني الذي يعتبر ان مرض الفنانين هو عقاب سماوي على مايقدمونه من فنون، على اعتبار ان الفنون ممارسات محرمة من وجهة نظرهم العقيمة.

من الملاحظ ان مثل هذه الانقسامات لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة خاصة في عصور ما قبل السوشيال ميديا، فكثير من الفنانين الذين تعرضوا لمحن مرضية مميتة على مدار تاريخ الفن المصري من أمثال أنور وجدي الذي توفى بسرطان المعدة حيث أصابت وفاته كل جمهوره بالحزن والأسى على رحيله المبكر ولم تظهر وقتها خلال الخمسينيات من القرن الماضي أيا من تلك المشاعر المتطرفة تجاه هذا الفنان بل أقصى ما تناولته الصحافة هو تلك الشائعة الشهيرة من انه تمني ان يحصل على مليون جنيه "وإن شالله يجيلي سرطان"، وحتي فيما بعد خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات كان الجمهور يبدي الكثير من التعاطف والأسي عند الاعلان عن مرض احد الفنانيين كما حدث مع المطربة الكبيرة فايزة أحمد التي كانت الصحافة تتحدث عن تعاطيها للمسكنات لكي تستطيع الغناء امام جمهورها ومثل الأسى الشديد الذى أبداه الجمهور عند رحيل الممثلة الشاب ناهد شريف بمرض السرطان وهي في أوج مشوارها.

ربما بدأت هذه الانقسامات مع اصابة فنانة شهيرة مثل شادية بالسرطان واعلانها اعتزالها الفن وارتداء الحجاب وهو ما أطلق ما بعد الموجة الشهيرة التي سميت بموجة الفنانات التائبات، وهو ما استدعى استنفار الكثير من التيارات الثقافية المتنورة للرد على هذه الموجة بإطلاق سؤال "تائبات عن ماذا" حيث شملت هذه الموجة عددا من الممثلات والراقصات وانسحبت على مجموعة من الفنانين الذكور من أمثال محمد العربي ووجدي العربي –الذى انضم الى جماعة الاخوان فيما بعد- ومحسن محي الدين بعد قطيعته من المخرج يوسف شاهين، من هنا بدأت ملامح الازدواجية الشديدة في التعامل مع مرض الفنانين تظهر على سطح المجتمع وترسخ لفكرة أن المرض هو عقاب إلهي على ممارسة الفن.

من ابرز الامثلة على تفاقم حالة الازدواجية ما حدث عند إعلان الفنانة الشابة الراحلة ميرنا المهندس عن إصابتها بالسرطان وصراعها المرير معه حيث ظهرت الكثير من أعراض هذا المرض الاجتماعي في شكل دعاوى لكي تعتزل وترتدي الحجاب وهو ما فعلته ميرنا بالفعل في فترة من الفترات استجابة لهذه الضغوط ثم عادت وقامت بخلع الحجاب لانها ادركت انه ليس هناك علاقة ما بين المرض والفن والحجاب وان اصابتها بالسرطان لم تكن عقابا ولكنها أسباب بيولوجية وأن ارتدائها الحجاب لم يكن عن قناعة بأن ممارسة الفن أمر محرم ويحتاج إلى الاستتابة.

من الحالات القليلة في لسنوات الاخيرة التي لم ينقسم فيها الجمهور عند الاعلان عن اصابة فنان بمرض خطير ثم وفاته بعد صراع مع هذا المرض عند رحيل الفنان الجميل محمود عبد العزيز بالسرطان حيث شاعت حالة من الحب والأسف على اثر هذا الرحيل المأساوي لفنان اثرى السينما العربية بعشرات من الأدوار تماست مع العديد من شرائح الجمهور واستطاعت أن تبقى في ذاكرته وتخلد محبة هذا الممثل العظيم في قلوبهم ولم تظهر وقت وفاة عبد العزيز أيا من تلك الدعاوى المنفرة التي تربط بين المرض والعقاب على الفن.

ماحدث مع الفنان محمود عبد العزيز في مارس 2017 يذكرنا بما حدث قبلها بثلاثة عشر عاما عندما توحدت دعوات وصلوات الجمهور من أجل تمني الشفاء للنجم الاسمر احمد زكي والذي سبق وأشرنا الي لحظة الشجاعة التي اطلقها قبل فلم الأخير "حليم" عندما طال الصراع بين زكي والسرطان كانت هناك أعداد كبيرة من الجمهور تتوجه يوميا الى مستشفى دار الفؤاد التي يرقد بها الفنان الكبير لتقدم الدعم الإنساني والنفسي الذي احتاجه وعندما غادر عالمنا كانت جنازته واحدة من الجنازات الحاشدة والمكتظة بعشاقه الذين ذهبوا خلفه لوداعه الى مثواه الاخير.

هذا لنوع من المحبة والتقدير لمشوار فنان عظيم ومؤثر ظهر هذا العام بشكل واضح وايجابي يحمل قدرا كبيرا من مشاعر التقدير والاحترام عندما قدمت مجموعة من الفنانين إعلانا عن أحد مستشفيات علاج السرطان، منهم يسرا ومني زكي ومعظم من شاركه أفلامه كصدقة جارية على روحه وكدليل على أن إصابته بالسرطان لم تكن عقابا على ما قدمه من فن راق، وجاءت الاستجابة الكبيرة من الجمهور سواء بالتبر او الاعجاب الشديد بالإعلان نتيجة للمحبة الموجودة بقلوبهم لأحمد زكي ابرز رد على تيارات الكراهية والمد الظلامي الذي يرد ان يربط دائما بين المرض والعقاب الرباني للفنانين على ممارسة كل ماهو ممتع وتنويري ومؤثر بشكل ايجابي ومبهج في حياة البشر وتطور المجتمعات.