رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مفاوضات اللحمة


ابتسم، وهذا فعل أمر، فليس هناك ما يستوجب التكشير، الدنيا عيد والإجازة طويلة بالصلاة على النبى، وبعد العيد يحلها ألف حلال، ثم ماذا حصدنا من الهم والغم والاكتئاب سوى غم أكبر؟!
دعنا نتفاءل من دون دروس فى التنمية البشرية، دعنا نجرب استقبال العيد بفرحة جديدة تمامًا نستلهمها من أهالينا الذين ذهبوا إلى بيت الله الحرام، فهم فى نشوة وسعادة وراحة ليس قبلها ولا بعدها، راحة حدثنى عنها صديق ذهب مؤخرًا إلى الحج، فليس هناك معاناة تُذكر فى الطواف أو رمى الجمرات، بل لا معاناة نهائيًا فى الحج من أوله إلى آخره، فالطائرة تحملك إلى مخيّم والمخيّم به أجهزة التكييف والمراوح والحاجات الساقعة، وكلما انتقل الحجاج إلى موضع كانت الشمسيات تُظللهم والتكييفات تُنعشهم، وتلك هى أزمة صديقى الذى تصور أن كل هذه الأريحية ستنتهى تمامًا فى وقفة عرفات، حيث المشاهد المحفورة فى الذاكرة عن الحجاج بملابسهم البيضاء وقد بدأوا الصعود الشاق إلى الجبل بينما أصوات التكبيرات تهز الصخر وترقق القلوب القاسية، لكنه وجد المخيّم بأجهزة التكييف والسجاجيد المزركشة وقد انتقل حتى إلى عرفات!! فانهار ألمًا وحزنًا وتدفقت دموع سيالة تحولت إلى بكاء ونحيب والناس حوله لا يعرفون ماذا أصاب الفتى!، فتجمعوا حوله بزجاجات المياه والمناديل المعطرة والتكبيرات والتسابيح، فنظر إليهم غارقًا فى الدموع: أنا جاى أتوب مش اتدلع الدلع ده كله يا ناس.. عايز أتوووب..أنا جاى من ماخور ذنوب.. فين لبيك اللهم لبيك.. وفين العرق والتعب، دفعنا الفلوس دى كلها عشان نقعد هنا ونشرب ميه ساقعة؟!»، ولم يفهم الناس ما الذى يمنعه من التوبة والجو ربيع والمخيم بديع!، فراح يصرخ وخلع نعليه منطلقًا إلى خارج المخيم حيث الحر والشمس والصخور الحادة، رافعًا يديه إلى السماء: لبيك يا ربى.. لبيك يا خالقى ونور وجهى وقلبى.. واهتزت قلوب الناس فخرجوا وراءه ليمسكوا بآخر طرف من التوبة، فلماذا لا نتمسك نحن بأطرافها هنا؟، دعنا نفرح يا رجل فالحياة قصيرة والأعياد شحيحة، وبعد ساعات سوف نستقبل عيدًا يلتقى فيه الأهل والأشقاء بعد أن كبروا وتزوجوا وأنجبوا أولادًا وحملوا همومًا حالت دون تواصلهم فترات طويلة مما سمح للفسافس الصغيرة بأن تولد بينهم، فقد نفخت زوجات بعضهم همسات نارية عن الأخ الفلانى الذى لا يسأل عن شقيقه، أو عن زوجته التى تشترى كل يوم فرخة وتدّعى أن البيت بلا فراخ، ولا تخلو عائلة مصرية من مشاحنات درامية تحول بين المرء وأخيه وأمه وأبيه، وبما أن الأهل ينعمون فى مكة بالقرب من نبى الرحمة محمد، صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نطمئن وأن نفرح بلقاء الذين غبنا عنهم وغابوا عنّا، دعنا نُقبّل أولادهم ونأخذهم فى أحضاننا ونحمل الورد ونعتذر لبعضنا البعض عن التقصير والتأخير والخذلان فى مواقف صعبة، أنا لا أشحن لك طاقتك الإيجابية بقدر ما أشحن نفسى بها الآن وأنا أكتب تلك السطور وأرفع عينىّ إلى زوجتى الطيبة التى فاجأتنى الآن بأزمة اللحمة! فمنذ أربعة أيام وهى تطرح فكرة التضحية، وأنا أنتظر نتائج تناسب إمكانياتى، فالجروب الخاص بأهل الشيخ زايد، حيث نسكن، طرح مشروعًا للاكتتاب فى «عجل» كبير يسهم فى شرائه سبعة أشخاص، وأعجبتنى الفكرة ورحبتُ بها، حتى اكتشفت أن مساهمتى فى «العجل» ستكون أربعة آلاف جنيه وكسور!، فلم أنشغل بالكسور وانشغلت بالأربعة، وحسبتها شمالًا ويمينًا فلم أفلح!، فطلبتُ منها البحث عن فكرة أخرى فجاءت بأفكار تراوحت جميعها بين أرقام لا تناسبنى مهما هبط مؤشرها، فأقل مساهمة تصل إلى ثلاثة آلاف جنيه، وأظنك تعرفت على إمكانياتى التى لم تتسع لأى مفاوضات فى اللحمة، فمقاسها ألف ومائة جنيه على أقصى تقدير، فماذا أفعل والابتسامة التى تهيأتُ لرسمها على وجهى فى استقبال العيد تخفت وتتراجع، وكل ما أخبرتك به عن التفاؤل والروح الإيجابية ينسحب رويدًا رويدًا؟!، هنا ظهر الفيلسوف الكامن بداخلى، فاعتدلتُ فى جلستى وقلت بحكمة الكبار: إن طبقتنا الاجتماعية لم تعد تسمح بالتضحية، وإنه يكفينا الستر وعدم السؤال، لذا سنترك الأضاحى لمن يحتاجها ونشترى نحن لحمتنا على قدنا وبارك الله فيما رزق، لكن زوجتى الطيبة الحنون لم تقتنع بكلامى واعتبرته بخلًا وشحًا وتبريرًا غير مقبول، فاقترحتُ عليها صيام عشرة أيام تكون خيرًا من التضحية ولا تقل عن حج بيت الله الحرام، وجئتُ إليها بالآية الكريمة: «والشفع والوتر وليالٍ عشر..» وقلت لها إن الليالى هى العشر وإن الصيام تسعة فقط، لكننا سنزيد عليها يومًا طلبًا للمغفرة عن قصر ذات اليد.