من هنا نبدأ

ما بين أول كتاب قرأته فى حياتى وأول إصدار لى حوالى الخمسين عامًا.. رحلة عمر قضيتها مع القراءة بين الصحف والكتب والموسوعات، وكنت أظننى قارئًا نهمًا حتى التقيت منذ سنوات بفلاح مصرى فى السبعين من عمره فى إحدى الندوات التى كانت تنظمها قصور الثقافة، أيام ما كانت هناك قصور للثقافة وقبل أن تتحول إلى قصور فى الثقافة.
حدثنى الرجل عن عشرات الكتب التى قرأها فى حياته واكتشفت أننى لم أقرأ شيئًا وأن القراءة لها أقطابها.. رحلتى مع القراءة والتى بدأت منذ اليوم الثانى لدخولى المدرسة فى أوائل الستينيات مع أستاذى الراحل الشيخ فهيم عامر، الذى كان يصر على أن حصة القراءة من أهم الحصص بالمدرسة، وكوّن لنا مكتبة الفصل، وكانت لدينا مكتبة المدرسة التى تسمح لنا بالاستعارة ثم المناقشة فيما قرأه كل منا.. من هنا كانت البداية، ومن هنا يجب أن نبدأ من المدرسة والمدرس.. العبء هنا يقع على وزارة التربية والتعليم التى أطلقت مشروعًا قوميًا للتعليم قدمت فيه التابلت كمنقذ للتعليم ونسيت الكتاب.. لدينا ٥٥ ألف مدرسة يجب أن تحتوى كل منها على مكتبة لا يقل عدد العناوين بها عن ألف عنوان، مما يعنى أن يكون لدينا ٥٥ مليون كتاب، ولنبدأ مشروعًا قوميًا لتزويد مكتبات المدارس، ونحدد للمشروع أربع سنوات، كل عام تزود كل مدرسة بـ٢٥٠ كتابًا من ميزانية الوزارة، مائة كتاب لكل مدرسة يقدر الثمن بحوالى ١٠ آلاف جنيه، ومائة كتاب من الطلبة وخمسون كتابًا من الجمعيات الأهلية بمحيط المدرسة أو قبول تبرعات أولياء الأمور.. الدولة لن تتحمل بالطبع ثمن مكتبات المدارس الدولية والخاصة، وتدفع بتكاليف مكتبات هذه المدارس للمدارس الحكومية.. الدولة تحاول نقل تجربة التعليم اليابانى ولم تفكر فى نقل تجربة القراءة فى اليابان، ففى كل محطة نقل ركاب توجد كتب، وأنت تتابع راكبى الوسائل العامة تجدههم يقرأون، وهناك فهم وحب للقراءة دفع هذا الشعب لأن يكوّن اليابان الحديثة.
مشروع إنشاء مكتبة فى كل مدرسة هو فى المقابل مشروع لبناء عشرين مليون مصرى وتحويلهم من مهندس أو طبيب لا يعرف شيئًا سوى فى مجال دراسته إلى عالم حقيقى، ولتسأل كل العلماء الكبار عن أهم ممتلكاتهم سوف تجدها المكتبة.
وكان مشروع القراءة للجميع ومكتبة الإسكندرية من أهم المشروعات التى شهدتها السنوات الماضية، ومن غير الطبيعى ألا تنشئ فى كل المدن الجديدة مكتبات عامة رغم حرص الحكومة على إنشاء المسجد والكنيسة والنادى والمستشفى إلا أن غياب المكتبة العامة عن الوجود يشكل نقصًا واضحًا فى منظومة بناء الإنسان المصرى.. نعود إلى المدرسة ونقترح مشروعًا قوميًا لعودة المكتبة كجزء أساسى من المدرسة والمنهج التعليمى.. حصة للقراءة أسبوعيًا كنا نطلق عليها حصة المطالعة، ولنتأمل الكلمة فمن القراءة نطالع العالم، نتعرف عليه، تذهب مع الكتاب إلى رحلات بعيدة فى الهند والسند والتاريخ وأيضًا المستقبل.. وقد بدأت مؤسسة «الدستور» مشروعًا لعودة القراءة مرة أخرى إلى اهتمامات الجميع، وقريبًا سيعلن عنه، ومن المدرسة سننطلق إلى بدايات المشروع.. مرة أخرى لا بُد أن يصدر قرار ملزم من الوزير بعودة حصة القراءة ولتكن حصة أسبوعية يقرأ فيها الطالب كتابًا من خارج المنهج الدراسى.. قصة.. رواية.. مسرحية.. كتاب فى السياسة أو الدين أو أى مشروع آخر، ومع اكتمال مكتبة المدارس نتيح له فرصة الاستعارة فى نهاية الأسبوع، وأن تقام مناقشات حول كل كتاب قرأه الطالب، ويقدم ملخصًا له ويمنح مقابله درجات.. لو قرأ الطالب ٤ كتب فقط فى العام الدراسى وقدم ملخصًا لأربعة أخرى بعد نهاية الإجازة المدرسية، واُعتبر ذلك مكملًا لشروط نقله للصف الذى يلى الصف الذى كان فيه، هذا سيعنى ان طالب الثانوية العامة سيقرأ حوالى مائة كتاب فى رحلته المدرسية، وهذا سوف يقدم لنا طالب جامعة مثقفًا يعرف ما يدور حوله ويستطيع أن يختار طريقه ومستقبله بطريقة صحيحة.
عودة القراءة إلى المدرسة هى البداية، وعلى التوازى يبقى أيضًا دور الأسرة هو الأهم، خاصة الأم فى المرحلة الابتدائية.. «اقرأ لطفلك» يجب أن يكون شعارًا، أعطه كتابًا مصورًا بدلًا من كارتون الموبايل والتليفزيون، اقرأ معه ولو قصة قصيرة.. ادفعه إلى التخيل.. نمى داخله الرغبة فى المعرفة.. المرحلة السنية حتى الثانية عشرة هى مرحلة البناء الأساسى للإنسان، وكما تهتم كل أم فى الذهاب بطفلها إلى السباحة أو كرة القدم.. حددى له وقتًا للقراءة والمناقشة وعودى أنت أيضًا للقراءة.. القراءة لطفلك لن تنمى فقط مداركه ولكنها ستدفعك أيضصا إلى المكتبة للبحث عن الكتاب المناسب له ويومًا ما ستبحثين أيضًا عن الكتاب المناسب لك.
إنشاء المكتبة فى المدرسة ولو بعدد كتب قليل هو البداية.. عودة حصة القراءة أيضًا هى الأساس، ولنبدأ خطوة الألف ميل بكتاب.. كتاب فى المنزل.. كتاب فى المدرسة.. كتاب على الشاطئ.. كتاب فى المصنع فى أوقات الراحة.. كتاب فى محطات الركوب.. كتاب فى كل مكان من المقهى إلى المسجد والكنيسة.. لو استطعنا تحقيق ذلك سنخلق أجيالًا تعرف العلم والوطن.
التحدى الذى أعلن الرئيس السيسى مواجهته هو بناء الإنسان ولن يكون ذلك ببناء إنسان يخرج من قطاع تعليمى يعلمه الحفظ ويحوله إلى روبوت، ولن يكون بناء إنسان رياضيًا فيتحول إلى ماكينة قوية، وكذا لن يكون ببناء إنسان يمتلك جسدًا قويًا وصحيًا فقط، فلكى يكتمل البناء يجب أن نبدأ فى بناء الإنسان صاحب الفكر المستنير.
لو سألت داعشيًا ستجده قد قرأ الفريضة الغائبة لابن تيمية وكتب الجهاد.. وفى المقابل لو سألت الإمام الشعراوى وعبدالحليم محمود والإمام الطيب والبابا تواضروس ستجده قد قرأ تلك الكتب ولكن أنار فكره بمئات الكتب الأخرى التى أوضحت وبينت له صحيح الفكر.
التحدى القادم فى بناء الإنسان هو أن تجعله يقرأ ثم يستوعب ما قرأ وبعدها سيختار طريقه الصحيح ويعرف هو كيف يؤدى دوره فى بناء الوطن.