رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التماثيل المحنطة ليست مستقبل الوطن


نتكلم دائمًا عن بناء الإنسان المصرى، باعتباره ضرورة لإحداث نقلة نوعية، فى العقل، والمفاهيم، والسلوك، وتغيير حقيقى يأخذنا إلى دولة مدنية حديثة ناهضة.
وكم سعدت عندما أكد الرئيس السيسى، فى مؤتمر الشباب الأخير، فى جامعة القاهرة، أن الأولوية هى بناء الإنسان المصرى، فى كل المجالات.
إن حال الإنسان المصرى، والإنسانة المصرية، رغم قيام ثورتين أوضحتا المعدن الحر الثمين للشعب المصرى- لا يسر أحدا، ولا يعكس طموحاتنا، ولا يدل على أن مؤسسات الدولة تأخذ قضية «بناء الإنسان»، كقضية محورية، وأساسية، بل إنها أكثر من ذلك. قضية «بناء الإنسان المصرى والإنسانة المصرية» قضية حياة أو موت. قضية وجود أو لا وجود. قضية بقاء مشرف، أصيل، على الخريطة الإنسانية.
بقاء يُلهم الآخرين ويعطيهم نموذجا واقعيا غير مستحيل بأن القيامة ممكنة بعد الوقوع.. وأن النهضة ممكنة بعد الركود.. وأن الورود، والسنابل، والأزهار، تطلع أحيانا من أرض وعرة. من هنا أناقش قضية فى صلب بناء الإنسان المصرى. وهى أننا نهتم بالآثار التى صنعها الإنسان المصرى القديم، أكثر من اهتمامنا بالإنسان المصرى فى الحاضر.
إن اهتمامنا بالآثار، كثمرة من ثمار حضارتنا المصرية القديمة، يفوق اهتمامنا بالإنسان صانع الحضارة فى الأساس. أغلب الناس لا يرون الحضارة، إلا تلك الآثار العابرة حدود الزمان. هم بذلك «يسجنون» الحضارة، فى قالب من «الحجر»، أحادى الرؤية، جامد. أنا أعتقد أن الآثار، بكل تفردها، وعظمتها، هى صدى الصوت، وليست الصوت نفسه. أو هى مجرد الإصبع، الذى يشير إلى القمر، لكنها ليست القمر. أو بمعنى آخر، الآثار هى الجانب «الساكن»، من الحضارة. أما الجانب «المتحرك» فهو عقل، وقلب، الإنسان الحى، «هنا والآن»، القادر على إحداث التغيير، والإبداع. إن حضارتنا ليست «تركة»، جامدة من التماثيل، والمومياوات، والتوابيت، والمعابد، والأهرامات.
لماذا ننحاز إلى حضارة «الحجر»، لا حضارة «البشر»؟. أو لنقل إن هناك اتجاها «سلفيا»، فى الفكر الحضارى، كما هو موجود فى الفكر الدينى.
ننشغل بحماية أنف أبوالهول، أكثر من حماية الإنسان الحى الآن من الفقر والمرض، والجهل. هل من العدل إنفاق مبالغ طائلة على البحث عن قطعة أثرية مغمورة، ولا ننفق شيئا يُذكر على البحث عن المواهب المغمورة؟.
ننفق على «ترميم» الآثار، ولا ننفق على «ترميم» البيوت، التى تتصدع وتقع على سكانها الآمنين. نهب سريعا لو سُرقت عين «توت عنخ آمون»، بينما لا نفعل شيئا، حين تُسرق كرامة الإنسان. يقف الناس يتأملون فى انبهار أحد التماثيل، الموجودة منذ خمسة آلاف سنة، ولا ينبهرون بكفاح إنسان مصرى، يناطح الأقدار، ويتحدى أصعب المعوقات لمجرد أن يحافظ على بقائه.
أنا أعترض على مقولة «السياحة هى مستقبل مصر»، يرددها كثيرون، باعتبار أن مصر تمتلك وحدها ثلث آثار العالم. عفوا أيتها التماثيل والمومياوات، والتوابيت، والمحنطات، أنتِ لست مستقبل الوطن. يا كل آثارنا الجميلة والعظيمة، إن مستقبل مصر فى تنمية حقيقية، وثورة ثقافية، فى «الإنتاج».. فى الزراعة وفى الصناعة، وفى تخضير الصحراء وفى الطاقة المتجددة، وفى الفن الراقى، وفى تثوير الفكر الدينى، وفى تحرير النساء من المعتقلات الذكورية.
إذا كان بناء الأهرامات عجيبة من عجائب الدنيا، ولغزا لم يُفسر حتى الآن، فإن «بناء الإنسان المصرى»، هو العجيبة الجديدة، التى يمكن أن يفعلها الشعب المصرى، بينما تحاصره عوامل التعرية القاسية، وظروف مناخية غير قابلة للتنبؤ. العقل المصرى.. الوجدان المصرى.. الإرادة المصرية.. الإبداع المصرى.. كل هذا هو طريق مصر، الذى ينتظر مرور أول قطار.