رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شريفة فاضل.. سيدة التفاصيل الصغيرة


فى أفراح قريتى فى الريف لا وجود للعوالم.. ولا المطربين. هكذا كان الحال حتى مطلع الثمانينيات.. عندما انتشرت فرق الشباب التى وصلت الآن إلى المهرجانات وتلك الرقصات الغريبة التى حلت محل كل طقوسنا القديمة التى توارت للأبد.

كان الفرح بالنسبة لنا مجموعة من الأعياد.. فقراءة الفاتحة عيد.. والخطوبة عيد.. والزفة عيد ثالث.. والصباحية عيد.. والسابع عيد.. وفى كل عيد منها طقوس ومواسم فرح لا تنتهى بالنسبة للأطفال.
يعنى خد عندك.. لم يكن هناك أفراح عشوائية.. فالأفراح لها موسم.. غالبًا كان ترتبط بموسم الحصاد.. قطن.. قمح.. قصب.. أيًا كان نوع الزراعة المهم أن يكون رب الدار قد ملأ خزائن بيته بالخير وملأ سيالته ومحفظته بالمال الذى يكفى لتجهيز ابن أو ابنة.. ولأن الحصاد غناء من أشهر تجلياته «يا حلوة ضمى الغلة».. فإن التجهيز أيضًا كان له غناء.. فشراء الملابس الخاصة بالعروس لم يكن يعرف محلات الأزياء.. كانت محلات القماش بأنواعه «المقصبة» وغيرها، هى الهدف لأى أم.. فى كل موسم.
ومنذ تبلغ الفتاة العاشرة والأم تشترى كل «موسم زرع» وتدفن فى «سحارة» خشب.. حتى يأتى موعد الفرح.. ولمدة شهر كامل تأتى «الخياطة» ومساعداتها لإنجاز هدوم العروسة.. هذا الشهر هو «موسم للغناء» بطلته مطربة اسمها شريفة فاضل.. لا نحفظ أغنياتها نحن الرجال لكن كل بنات العائلة.. أى عائلة فى الريف تحفظها.. ثم تأتى مرحلة الخبيز.. كل المنقوشات التى حفظت الجدات أشكالها وربما استعارت بعضها من المطبخ التركى الذى ألقى بظلاله على الصعيد، فكبار أعيان بلادنا كانوا يتزوجون من تركيات لأسباب عرقية غير مفهومة بالنسبة لى، وعمومًا يمكن القول إن مرحلة الخبيز تلك عنوانها أغنية اسمها «ناعمة يا غريّبة».. وبطلة هذه المرحلة مطربة اسمها ليلى نظمى.. أما مرحلة الزفاف ذاتها.. فالرجال كانوا يعرفون طقوس التحطيب والمزمار البلدى ونجوم الموالد والحضرة، من أول أحمد التونى والعجوز وغيرهما.. لكن النساء يعرفن أن تلك المرحلة لها أغنياتها الممنوعة على الرجال والصبيان عمومًا ويمكن تسميتها بمرحلة «أحمر يا قميص النوم».. أو «ما تجيبلى شكلاته يا بلاش يا وله».. لصاحبتها فاطمة عيد.. هذه كانت أفراح قريتى حتى بداية عصر مبارك.. وحتى انتقالى للمدينة للدراسة، حيث عرفت «فرقة حسب الله».. وخطفتنى موسيقاها النحاسية.. وأغنيتها التى لا تغيب «دقوا المزاهر يلا.. يا أهل البيت تعالوا».
وأكثر ما أثار إعجابى واندهاشى فى وقت واحد.. هو أن هذه الأغنية من ألحان فريد الأطرش.. فكيف تكون الأغنية الرسمية لكل أفراحنا لملحن ومطرب أقرب الأوصاف إليه.. هو وصف «مطرب الكآبة والدموع»؟.
عازف الترومبيت الوحيد فى محافظة سوهاج وقتها.. وهو نفسه والد المطرب أسامة الشريف.. صدمنى عندما أخبرنى أن فريد الأطرش هذا الذى لا يعجبنى «ملحن قدير» ومطرب قدير يفوق فى قيمته «محمد عبدالوهاب» إن لم يكن يضاهيه.. وطبعًا - وأنا ابن الخامسة عشرة - لم أستوعب ذلك على الإطلاق.. ولم أبلعه.. حتى طاردتنى هذه الأغنية فى مدخل أى فندق أذهب إليه لمجاملة صديق فى فرح وفى كل بر من محافظات مصر.. هل فيكم أحد استطاع أن يهرب من نغماتها فى أى فرح بلدى كان أو فى أفخم فنادق القاهرة؟.. أشك فى ذلك.
تخلصت من عقدة فريد الأطرش بمرور الوقت.. لكننى لم أستطع الفكاك من أسر «شريفة فاضل».. فكل تفاصيل حياتنا الصغيرة مرتبطة بها رغمًا عن أنفك.. وساهمت عزلتى مع راديو الترانزستور الصغير أثناء الخدمة العسكرية فى منحى جرعات يومية من أغنياتها التى اكتشفت أنها تزيد على الألف بكثير.. الغالبية العظمى منها تتحدث عن «الهامش» الذى نعيش تفاصيله يوميًا.. لكننا لا نلاحظه من شدة التصاقنا به.. فكيف حدث ذلك؟.

اسمها الحقيقى فوقية.. وجدها أول من جوَّد القرآن
ربما انتبه أبناء الجيل الجديد إلى صوت شريفة فاضل عندما استعاد محمد منير ونانسى عجرم إحدى أغنياتها خفيفة الدم فى برنامج «آراب أيدول».. وعادت الأغنية لتحتل الأرقام الأولى فى محركات البحث.. لتظهر بصيغتها الأولى بصوت شريفة.. وتظهر «حارة السقايين» لتحتل مكانها فى أدمغة أبناء «الكومباوند».. وهم الذين لم «يعتبوا» حارة فى حياتهم ولا يعرفون من الأصل يعنى إيه «سقا»..
«على مين يا سيد العارفين
نبيع الحب لمين..
إن كنت جى تغنى
روح اسأل قبله أنا مين
ما تروحش تبيع الميه فى حارة السقايين».
>
وقبل أن تسألنى عن «الكيكا» و«حاورينى».. أحب أن أخبرك أن مؤلف هذه الأغنية هو الشاعر الشيك جدًا حسين السيد.. وأن ملحنها هو «المبدع» منير مراد صاحب القدرة دومًا على مفاجأتك بأنه يستطيع تلحين أى كلام.. فى أى موقف ولأى مطرب. وقبل أن أخبرك أن صوت شريفة فاضل فات على كل بساتين الألحان فى مصر.. وغنى بكل اللهجات العربية.. وأن رياض السنباطى وسيد مكاوى وبليغ حمدى ورءوف حلمى والموجى.. وعشرات الأسماء الكبيرة كل منهم وضع بصمته على هذا الصوت.. أقول لك أولًا من هى شريفة فاضل..
هى يا سيدى الفاضل.. فوقية محمود أحمد ندا.. وأحمد ندا هذا هو أول قارئ للقرآن الكريم فى مصر.. أو بمعنى أدق هو أول من «جوّد القرآن» فى مصر الحديثة.. وهو من مواليد حى «البغالة» بالقاهرة إلا أن جذوره تعود إلى محافظة الغربية.. وبالتحديد المحلة الكبرى.. وكان معروفًا بحلاوة الصوت وقوته قبل أن يخترعوا الميكروفون.. لكن شريفة لم تعش طويلًا فى حضن جدها، حيث انفصل والداها.. وتزوجت أمها من إبراهيم الفلكى وهو أحد أثرياء القرن العشرين وتمت تسمية الميدان الشهير فى وسط البلد - ميدان الفلكى - باسمه!.

عندما تزوجت والدة شريفة من الفلكى اختارت أن تعيش فى عوامة شهيرة بمنطقة نيل الزمالك.. وتاريخ العوامات معروف، حيث كانت تجرى فيها سهرات الكبار من حاشية الملك وأعوانه ورجال السياسة.. وفى عوامة الفلكى جاء الملك فاروق واحدًا من نجوم تلك السهرات التى كانت الطفلة «فوقية» تغنى فيها كنوع من مرح الأطفال.. وصفق لها الملك.. ورجال حاشيته.. والوزراء وكبار رجال الأعمال والمال، وأحدهم اسمه سيد ياسين قرر أن ينتج لها أول أفلامها وهى فى الثانية عشرة من عمرها.. واسمه «الأب».. وكان من الطبيعى أن تتعلم الفن.. فذهبت إلى معهد الفنون كمستمعة نظرًا لكبر سنها عن «مواعيد دخول الأطفال».. لكنها لم تستمر طويلًا فقد خطفتها الشهرة.. والزواج.

فى الوقت الذى ذهبت فيه شريفة فاضل إلى المعهد.. كان من الطبيعى أن تكون خطوتها التالية للإذاعة.. الباب الأول للشهرة فى ذلك الوقت.. لكن المفاجأة أن أغنيتها الأولى لم تكن من أغانى الأفراح على الإطلاق.. بل كانت لحنًا من الألحان الثقيلة لمحمد الموجى ومن كلمات رفيق دربه فى تلك المرحلة إسماعيل الحبروك واسمها «أمانة يا بكرة»:
«وابات م الحب أشكى
لا طايلة احكى ولا أبكى
أمانة ما تجرحنى
أمانة لتفرحنى.. أمانة يا بكرة».

ومثلما كانت الإذاعة باب مرورها للشهرة.. كانت بوابتها للزواج حيث تعرفت على السيد بدير كبير الرحيمية قبلى وقد كان مؤلفًا ومخرجًا وممثلًا مشهورًا يكبرها بسنوات كثيرة لكنها كانت معجبة به وبنجاحاته فأرغمت أهلها على الموافقة لتتزوجه وتنجب منه ابنها الطيار الذى استشهد فى حرب أكتوبر.. وهو نفسه صاحب الأغنية الشهيرة «أم البطل».. ومع السيد بدير كانت نجاحاتها الأولى والمبهرة.. وأكثرها تأثيرا كان مع فيلم وأغنية «حارة السقايين» التى باعت ملايين الأسطوانات ووضعتها فى مقدمة مطربى الغناء الشعبى فى مصر.. مما دفع عبدالحليم وعبدالوهاب إلى ضمها لمطربى شركتهما «صوت الفن»، ومع حليم خرجت إلى حفلات الوطن العربى.. تشاركه كل حفلاته تقريبًا وأشهرها فى المغرب حيث طلبها الملك بنفسه لتكون شريكة العندليب فى لياليه هناك.

ساعدت ثورة يوليو بالغناء للفلاحين والعمال من ألحان الكبار
جاء ظهور شريفة فاضل فى لحظة قررت فيها السلطة فى مصر إعادة ترتيب الطبقات.. فالثورة التى أصدرت قانون الإصلاح الزراعى فى عامها الأول.. لم تكن فقط تحارب الإقطاع ولكنها كانت تدفع بالفلاحين آباء رجال يوليو إلى مقدمة الصورة.. فكتب الأبنودى عن الفلاحة المصرية لرشدى.. و«الله دى صورتك تنفع تزين الجرانين».. وغنت شريفة من كلمات حسين السيد وألحان منير مراد مجددًا:
«فلاح كان فايت بيغنى
من جنب السور..
شافنى وأنا بجمع
كام وردة فى طبق بنور
قطع الموال.. وضحكلى وقال
يا صباح الخير ياهل البندر
يا صباح النور».
>
على ابن الجناينى لم يحصل على قلب «إنجى» بنت الباشوات.. لكنه صار «تيمة» تسعى الثورة وجهازها الفنى والإعلامى إلى تكرارها والإلحاح عليها.. وكانت شريفة فاضل إلى جانب ماهر العطار ومحمد رشدى ومحمد قنديل هم الكتيبة التى حاربت من أجل تثبيت هذه الصورة فغنت لكل تفاصيل حياة الفلاحين والعمال تقريبًا.. وفى واحدة من أجمل هذه الأغنيات كتب محسن عزت ولحن طه العجيل وغنت شريفة: «ورق العنب».
«ورق العنب ضلل على شباكنا
اللى قصاده جدع حليوه شبكنا
بياع من البلد البعيد يزورنا
عشان يجيب أهله معاه يشبكنا
الشعر أسمر..
والعيون غزلانى
وجبين منور
والقوام سلطانى».

وصورة ذلك الفلاح الذى حاز قلب المطربة بنت البلد.. يكتبها الشاعر بتفاصيل مدهشة:
«اللاسة ع الكتف العريض بقيامه
والعود مفرّع طول وعرض بقامة
سدّاد فى وقت الشدة كله رجولة
يمشى ويتعاجب وكله شهامة..
عايق ومتعايق عصايته فى إيده
والخال على خده جمال بيزيده».. إلخ.
لم تكن صورة الفلاح فقط التى رسمها صوت شريفة فاضل الشعبى المبحوح.. لكنها صورة ابن البلد.. وصورة ابنة البلد أيضًا التى تراقبه وهى تختبئ خلف مشربيات حاراتنا القديمة:
«ع الناصية ديه..
وأنا مداريه.. فى المشربية
بشوفه رايح.. واشوفه جى
الصبح بدرى والمغربية
وعنيه لفوق.. مليانة شوق
بتبص ليا.. وتغير عليا».

هذا الذى يغير عليها.. ويبص عليها بأدب لا يمنع أنه صاحب حركات.. لكن ماذا سيفعل «بتاع الحركات» مع «واحدة من بولاق»:
«بطل حركاتك ديه
خف من الحنية شوية
إن كنت م الحسنية
منا برضه يا واد.. بولاقية».

ومثلما غنت للفلاح.. والعامل.. غنت للنجار.. حتى وإن كانت أغنيتها باللهجة اللبنانية من ألحان فيلمون وهبى:
«حبيبى نجار شغله ع البيكار
وضربة قدومه بترن
وتخلى المسمار يحن
وما يقرب صوب المسمار».

تفاصيل حياة أولاد البلد هذه.. شغلتها شريفة مرة بعد أخرى.. شوف كده ماذا تفعل فى أغنية فرح عادية اسمها «جابلى الحلق والشال»:
«جابلى الحلق والشال
وأسورة وخلخال
وقال يا بنت الخال
يا أحلى م الموال
بكرة هجيب كردان
والطرحة والفستان
وأزرع فى بستان الصفا
حب وحنان..».
>
باختصار رسمت شريفة بأغنياتها علاقات عاطفية من نوع مختلف فى تاريخ الأغنية الشعبية المصرية..
«شوية مى..
قلبوا الحى
وعملوها حكاية..
وقصة ورواية..
وكل القصة وما فيها
شربت أنا قبله
وشرب ورايا».

هذه القصة والرواية.. التى صنعها العواذل.. يلزمها أن تكتمل بشوية تعب.. عبر عنها ببراعة عمنا عبدالرحيم منصور فى واحد من أجمل ألحان فريد الأطرش «بوابة المتولى».
«من بوابة المتولى
للصاغة للغورية
وأنا دايرة بلِفّ وأدوَّر
م الصبح للعصرية
على صبر يكون مش قاسى
ويكون مر بحنية
حدش فى الحب احتار
يعرف دكان عطار..
ويبيعلى كام قنطار
صبر يكون حلو شوية؟!».
>
ذلك المعنى المدهش عن «الصبر» الذى كتبه عبدالرحيم منصور.. يكمل صورته شاعر آخر من كبار شعراء مصر فى تلك المرحلة هو مجدى نجيب مع موسيقى «الفاجر بزيادة.. بليغ حمدى» فى أغنية اسمها «لما راح الصبر منه»..
«لما راح الصبر منه..
جانى يسأل عن دوا..
قالى شوفى أحلى عمر..
أحلى عمر نكون سوا..».
السلطنة.. توحيدة «أم البطل»
>

غنت لـ«السادات»: «يا ريس يا أبودم خفيف»
يمكنك أن تقول عن شريفة إنها مطربة الليل وحكاياته، ويمكنك أن تقول إنها مطربة العمال.. أليست هى التى غنت «يا حلاوة الإيد الشغالة» من كلمات نبيل مهدى وألحان حسن نشأت.. وممكن تقول إنها مطربة الرئيس السادات الذى كان يعشق صوتها الذى غنت له فى إحدى الحفلات: «يا ريس يا أبو دم خفيف» مما تسبب فى منع أغنية «أسمر يا سمارة».. لسنوات حيث لا يصح أن تغازل مطربة رئيس البلاد الأسمر حتى لو كان صديق زوجها الثانى «الطيار أول على زكى».. ويمكنك أن تقول إنها مطربة المجهود الحربى الذى غنت من خلال حفلاته: «تحيا البحرية، وقد القول يا أبوالهول» وعشرات الأغنيات الوطنية.. وهى أيضًا توحيدة التى كتب الأبنودى وبليغ حكايتها فى واحدة من الأغنيات الملحمية الشهيرة التى ضمها فيلم بنفس الاسم.. وهى أيضًا سلطانة الطرب منيرة المهدية التى قدمت فيلمًا كاملًا عن سيرتها وغنت فيه أغنياتها الشهيرة.. لكنها ستظل صاحبة اللقب الأشهر «أم البطل».
«يا مصر.. ولدى الحُرْ
اتربى وشبعْ من خيرك
اتقوّى من عظمة شمسك
اتعلم على إيد أحرارك
اتسلح بإيمانه واسمك..
شد الرحال.. شق الرمال
هز الجبال.. عدى المحال
زرع العلم..
طرح الأمل..
وبقيت أنا.. أم البطل».