رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: جميلات إحسان عبدالقدوس وصراع البارد والساخن

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

كلما ذكروا كلمة الصيف حضر إحسان عبدالقدوس بروايته اللطيفة الناعمة عن البنات الجميلات وحكايات الحب والغرام على الشواطئ فى مصر الخمسينيات، فها هى مايسة بطلة «البنات والصيف» تتمشى على البلاج فى سيدى بشر ساعة الغروب ترتدى بنطلونًا من قماش «استكس» فى لون الليل وبلوزة فى لون قشر البرتقال وفى قدميها «صندل» بلا كعب وخطواتها سريعة قصيرة وكل قطعة من جسدها تهتز كأنها تلهث فى اللحاق به، لكننى سأخطفك من مايسة وجمالها إلى رحلة أخرى.
هل تخيلت الشتاء والصيف يقف كل منهما أمام الآخر لمعايرته والتفاخر عليه؟!. أنا عشتُ تلك المتعة فى «مسامرة الضيف بمفاخرة الشتا والصيف»، والكتاب تحفة واللغة سهلة ميسورة والمؤلف قطعة سكر ولا يعيبه سوى اسمه الذى يصعب حفظه «الشيخ أبى بكر بن محمد عارف خوقير ١٣١٦ هجرية»، والقصة بدأت من مكتبة إلكترونية تضم مئات المجلدات، من بينها لمحتُ اسم هذا الكتاب قليل الصفحات عظيم المتعة، فالمؤلف العبقرى يقول إنه فى إحدى ليالى الصيف لم يحتمل حرارة الجو التى جعلت جسده لزجًا وملتهبًا وأطارت النوم من عينيه، فتمنى أن يأتى فصل الشتاء، وانشغل بالفكرة وتوقد خياله فنهض وقرر أن يكتب قصيدة مديح فى الشتاء: «نعم الشتاء وحبذا زمن الهنا والراحة.. طاب العناق به إذا دار الحبيب براحتى»، وبينما هو منسجم تمامًا ويكاد ينعم بذكريات الهواء تلفح وجهه إذ طرق باب البيت ضيف غاضب: «جاءنى طيف خيال فى صورة أسد مختال وقال إنى أنا الحر والقيظ، تضجرون منى وتصيحون من حرارتى وأنتم تجدون اللذة الرائقة إذا قابلتمونى بالماء والثياب الرقيقة، وتفسحتم فى الرياض البديعة».
إنه الصيف الذى تألم كثيرًا وجاء يلقن المؤلف درسًا قاسيًا، ويعدد له مصائب الشتاء الذى يتمناه وذكريات (التكتكة تحت البطانية): «ستذكرون أفضالى جيدًا إذا جاءكم البرد بجنوده وصعق عليكم الصواعق والرعد، وكلفكم ما لا طاقة لكم به من كثرة الطعام والملابس العظام، واذكروا إذ قام أحدكم إلى شربة ماء فلا يكاد يسيغه ولا يتجرعه»!
ولم يكتف الصيف بتوبيخ المؤلف عند هذا الحد، بل أصر قبل أن يمضى أن يُذكّره بقول الشاعر: «توقّ من الشتاء أى اتق شره ولا تخاطر بنفسك قائلًا إنى حديد، فرضنا إن جسمك من حديد.. فهل يقوى على البرد الحديد؟!».
وظن المؤلف أن الضيف انصرف، فأخذ نفسًا عميقًا كى تهدأ روحه، وفجأة، وكما يفعل الأشرار فى الدراما، عاد الصيف! وضرب الباب بقدمه ونظر فى عينى الرجل وقال ساخرًا: «اصمت يا أبا بكر، وتذكر قول شاعر: جاء الشتاء سحق الوجوه ببرده.. أبدى الزكام بأنفهم، أعشى العيون برمده، رعب القلوب برعده، جلب الغموم بغيمه».
أنهى الصيف كلامه وقبل أن ينصرف هذه المرة حدث ما أشعل الموقف وألهب الخيال، فقد جاء « الشتاء» من الخلف ضاحكًا، فانخلع قلب المؤلف وقال مفزوعًا: أعوذ بالله، فردّ الشتاء: أعوذ برب المثانى من كل ظالم وحسود لا يقدر شانى وجاهل لا يعرف مكانتى».
وبدا الشتاء واثقًا وهو يتعجب من الصيف الذى صدّق نفسه وظن أنه الأفضل وتطاول عليه!، وذكر له قول الشاعر: «إذا ما خلا الجبان بأرض.. حاول الطعن وحده والنزالا»، ثم رفع حاجبه متعاليًا ومستهزئًا وألقى قنبلة مدوية زلزلتْ الأرض وألزمت الجميع الصمت من هول وقعها: يكفيك ذمًا وهجاء أنك معدود من جملة النساء، وكما قالت العرب الشتاء ذكر والصيف أنثى»!، وهنا انتفض «الصيف» واحتقن وجهه غلًا وغيظًا وغضبًا: «انظروا أيها الرجال إلى هذا المُعجب المُختال والجهول الضال، يا هذا مشيرًا إلى الشتاء ليلك طويل، وعلى القلوب ثقيل، يمل منه الصحيح، ويضجر منه العليل، ضاعف الوجد على المحبين وطالما خاطبوه وهو لا يجيب، لا يرثى للنحيب كأنه عاجز ضلّ الطريق وسكران لا يفيق»، وهنا لجأ الشتاء إلى جلسة البيت وأُنس الحبيب مع روائح المحشى والمشوى فى عز البرد وتنهد قائلًا: أنا دفء البيوت وساعات الصفاء، وصرخ: إلى متى تموه الزيف وتُقبح الحُسن بكلام مستهجن، أمّا طول ليلى فهو من فضلى، كيف لا؟! وقد جعله الله سكنًا ولباسًا وجعل فيه أُنسًا وإيناسًا بالأليف والسكن والحبيب، وتمتد المباراة الكلامية بين الاثنين فى خفة ظل وتدفق لغوى مبهر.
ورغم انحياز المؤلف للصيف ربما استجداءً لنسمة هواء تعيد إليه النوم الذى طار وتُرطب الجسد الملتهب، أو لطبيعته الصحراوية التى تختلف فى درجة حبها الليل والنهار عن طبيعة أبناء المدن إلا أنك لا تستطيع إلا أن تنحنى إعجابًا بالمؤلف العبقرى اللطيف واسع الخيال الذى أثار ضجة فى عصره بهذا الكتاب الصغير، ونال إعجاب «الجاحظ» لدرجة أن صاحب «البخلاء» قرر أن يضع مؤلفًا يُكمل به الاحتفاء بفصول السنة ويسير على نهج «مسامرة الضيف بمفاخرة الشتا والصيف»، فمكث غير بعيد وعاد بسلوة الحريف بمناظرة الربيع والخريف، معترفًا بفضل صاحب مسامرات الضيف الشيخ أبى بكر بن محمد عارف خوقير صاحب الدم الخفيف والاسم الثقيل، رحمه الله.