رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نصر حامد أبوزيد يكتب: أزمتنا من الحجاب إلى النقاب

نصر حامد أبوزيد
نصر حامد أبوزيد

هكذا فى نزعة ردّ فعل غير مسئولة صار الحجاب «فريضة»، وصارت جميع غير المحجّبات -حتى فى تركيا التى تمنعه فى الجامعة، وفى تونس التى تضع عليه القيود- مُفَرِّطة فى فرض دينى. ليس من الصعب أن يبنى المتشدّدون على أساس هذا التصريح من شيخ المؤسسة الدينية أنّ عدم ارتداء الحجاب يماثل ترك الصلاة وكلاهما والعياذ بالله كفر.
أى تعليق على مسألة الحجاب أو مناقشة لمدى حجّية الأدلّة على اعتباره «فرضًا» تثير عواصف هوجاء فى المجتمع المصرى. عبارة قالها وزير الثقافة الأسبق «فاروق حسنى» شغلت مجلس الشعب المصرى -مصر التى يتحمّل شعبها أكوامًا وأحمالًا من المشكلات التى يجب أن تشغل أعضاء المجلس الموقّر- أيامًا من الجدل والنقاش حتى سحب الرجل عبارته وخطَّأ نفسه.
وأثيرت مسألة النقاب مجدّدا، بسبب شيخ الأزهر السابق أيضًا حيث كان فى زيارة لإحدى مدارس الفتيات التابعة للأزهر، وطلب من إحدى الفتيات المنتقبات أن تنزع النقاب، فاستثير الإسلاميون ضدّ الأزهر وشيخه. فمن قائل إنّ مسألة النقاب مسألة حرية شخصية، ومن ذاهب إلى أنّها «عادة وليست عبادة» -لاحظ التصنيف- ومن قائل إنّها واجب شرعى. وصل الأمر إلى القضاء بسبب قرار رؤساء الجامعات بمنع الطالبات المنتقبات من دخول المدن الجامعية فأصدرت محكمة القضاء الإدارى حكمها بتمكين الطالبات من الدخول واعتبر قرار رؤساء الجامعات مخالفا لقانون الحريات الشخصية.
النظر فى كلّ المبرّرات الدينية، وغير الدينية، لتغطية المرأة وحجبها عن الوجود فى الفضاء الاجتماعى العامّ، يفضى إلى نتيجة يجب أن تزعجنا جميعًا: أنّ الهدف الأسمى هو «حماية الرجل» من فتنة المرأة، حمايته من غواية النظر إليها. لا أحد يتحدّث عن حماية المرأة من فتنة الرجل ويطالب الرجال بستر فتنتهم. تبدو غواية الرجل للمرأة -فى الوعى العام- أمرًا مقبولًا، إنّه الطبيعى. فتنة المرأة هى غواية الشيطان. هكذا يعود الوعى العامّ إلى أسطورة الخلق التوراتية، حيث أغوت حوّاء آدم؛ فارتكب معصية الأكل من الشجرة المحرّمة، فطُرِد وهى من الجنّة. القصة التوراتية تقول: إنّ المرأة هى مدخل الشيطان إلى الرجل، وهكذا يصبح الرجل هو «الإنسان» والمرأة بعضه الأعوج، الذى يحتاج طول الوقت إلى تقويم. كلّ هذه العناصر التوراتية لا وجود لها فى القرآن نصًا، وإنما دخلت نطاق الفكر الدينى عبر كتب التفسير التى استعانت بهذه التفاصيل لشرح ما لم يذكره القرآن.
وحده محمد عبده فى، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضى، تنبّه لهذه المشكلات فى الفكر الدينى. والفكر الدينى الآن بتراجعه إلى ما قبل لحظة محمد عبده يسحب المجتمع إلى الوراء. لكن علينا ألا ننسى أنّ المجتمع، فى الأصل، هو الذى سحب الفكر الدينى إلى الخلف، ثم استسلم له ليقوده. من هنا فإنّ السبيل الوحيد لمقاومة أى نهج، أو نمط جديد من التفكير، هو الصياح ورفع يافطة «الثوابت» و«الفكر الغربى»، و«المناهج المستوردة»، كأن ما أنتجه الأسلاف لا يقبل الفحص والنقد والردّ.
وقضايا المرأة فى الفكر الإسلامى بصفة عامة تثار فى مصر أولًا، ثم ينتقل الجدل الصاخب منها إلى المجتمعات العربية؟ فى حدود علمى أنّ منظومة القضايا المتعلّقة بوضع المرأة ومكانتها فى المجتمع -وقضية الحجاب أو النقاب واحدة من هذه المنظومة - هى «كعب أخيل» فى العالم الإسلامى طولًا وعرضًا. لكن لأن المجتمع المصرى كان قد تجاوز هذه المشكلات وتخطّاها، منذ بدايات القرن العشرين، فإن حالة الارتداد التى يمرّ بها، منذ عقود تلفت الأنظار إليه. ماذا حدث للمصريين؟ تساؤل طرحه المفكّر «جلال أحمد أمين» منذ فترة، وما زال يحتاج النظر فيه. للإجابة عن هذا التساؤل ينبغى عدم استبعاد التأثير الخليجى -السعودى الوهّابى بصفة خاصة- على وعى المصريين، الذين تزايد عدد مهاجريهم بحثا عن فرص عمل أفضل، منذ بداية السبعينيات من القرن الماضى.
الإسلام الخليجى، هو بشكل أو بآخر، إسلام الجزيرة العربية، وهو أشدّ صيغ الإسلام تشدّدًا وتزمّتًا. إذا كان الإسلام الأوّل هو إسلام الحجاز، فالإسلام السعودىالخليجى هو إسلام نجد القرن الثامن عشر. وشتّان بين إسلام الثقافة العالية، فى القرن السابع -ثقافة التجّار والمدن- وإسلام بداوة «نجد»، المتمثل فى «الوهابية»، التى لم تتطوّر فى مقولاتها الأساسية خطوة واحدة منذ مؤسّسها «محمد بن عبدالوهاب». بل إنّ المعارضة السياسيةالدينية للنظام السعودى تكفَّر حكام السعودية، لانحرافهم عن الدين الحقّ، الذى أسّسه ابن عبدالوهاب. هذا هو الإسلام الذى غزا، بقوة المال، وعى أبناء المجتمعات الأخرى، وعلى رأسها مغتربو المجتمع المصرى.
بالإضافة إلى هذا العامل، ثمّة عاملان جوهريّان مكّنا هذا العامل من أن يلاقى أرضا خصبة: أحدهما التحوّل السياسى الاجتماعى، الذى أحدثه الرئيس السادات فى بنية الدولة، منذ تولّيه سلطة الحكم فى أكتوبر ١٩٧٠، أعنى الانتقال من نظام «رأسمالية الدولة» إلى نظام «الاقتصاد الحرّ»، بشكل عشوائى. هذا الانتقال العشوائى -الذى أطلق عليه أحد الإعلاميين النابهين، الراحل «أحمد بهاء الدين»: الانفتاح السداح المداح- كان له، ولا يزال، تأثيره الفادح على الطبقات العاملة المصرية؛ فاختفت الطبقة الوسطى تدريجيًا لحساب انقسام طبقى حادّ بين أغنياء سفهاء وفقراء معدمين. صار المجتمع المصرى، الذى كان مجتمع التكافل الاجتماعى، تحت مظلة الدولة الاشتراكية، مجتمع الصدقة والبرّ والإحسان، تحت رحمة رجال الأعمال. من المهمّ هنا أن نؤكّد أنّ هذا الوضع أدّى إلى تحالف بين طبقة رجال الأعمال من جهة، وبين رجال الحكم وفصيل من المثقفين والأدباء والفنانين من جهة أخرى. فضيحة «شركات توظيف الأموال» فى الثمانينيات كشفت عن انضمام المؤسسة الدينية الرسمية إلى هذا التحالف، الذى ضمّ أيضًا «الإخوان المسلمين»، أكبر المدافعين عن رأسمالية السوق الحرة. هذا التحوّل فى الخطاب الدينى المصرى تعاملت معه تحليلًا ونقدًا فى «نقد الخطاب الدينى». انتهى هذا التحالف إلى أن أصبح زواجًا كاثوليكيًا بين المال والسياسة والفكر فصار رجال الحكم هم أنفسهم رجال الأعمال.
أما العامل الثانى -الذى أثّر على وضع المرأة فى المجتمع المصرى بشكل فادح- فهو الأثر الأكبر للعامل الأول، فيتعلّق بأزمة سوق العمل، وتزايد معدلات البطالة فى مصر، خاصة بعد أن تزايد اعتماد سوق العمل فى الخليج على العمالة الآسيوية الأرخص. غنى عن البيان أنّ هذا الانفتاح الاقتصادى -الانفتاح الاستهلاكى بامتياز- عمّق من مأساة أزمة البطالة، بكلّ ما صاحبها- من مظاهر الترف المبالغ فيه. لعلّ مثال حفل زفاف إحدى بنات الرئيس السادات لأحد أنجال أكبر رجل أعمال فى مصر يكفى للتدليل على هذه الظاهرة، حيث تمّ بثّ الحفل من خلال قناة التليفزيون الحكومية ورأى المصريون جنيهات الذهب ترشّ على العروسين بدلًا من حبوب الأرزّ أو القمح -أو الورود- التى تعود المصريون رشها رمزًا لأمنيات الزواج الخصب السعيد.
فى نقاشات فى مجلس الشعب المصرى حول البطالة كان الاقتراح هو إعطاء النساء العاملات إجازة بنصف أجر للتفرّغ لتربية الأطفال ورعاية الأسرة، أهم الأدوار المنوطة بالمرأة، حسب الخطاب الدينى. بعبارة أخرى، لم تناقش الأزمة بوصفها أزمة اقتصاد استهلاكى يحتاج ترشيدًا وإعادة هيكلة ليتحوّل إلى اقتصاد إنتاجى، بل صارت الأزمة هى عمل المرأة الذى يقلّل من فرص عمل الرجال. هكذا بدأ تحويل كلّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى قضايا تحلّها العودة إلى قيم الدين، وعلى رأسها عودة المرأة إلى البيت. من هنا بدأ الانحدار وتدريجيا تطوّر الخطاب، المعادى للمرأة، من الدعوة إلى عودتها إلى البيت -الذى يعنى استبعادها من الوجود فى الفضاء العام- إلى الدعوة إلى تغطية شعرها، ثم تغطية جسدها كله، إذا كان ولا بد من وجودها فى الفضاء العام للضرورة.