رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: صاروخ بلاستيك فى طبق مكسور


«باختصار يا جماعة أنا ما ليش حد غيركو، لا أخ ولا أخت ولا حتى قرايب، كلهم طلعوا زبالة».. وكان فتحى يبالغ مبالغة كبيرة، فنحن الثلاثة لا نلتقى إلا نادرًا، تصادقنا أيام الجامعة وغامر هو بترك الجامعة وتكوين فرقة موسيقية فى التسعينيات، حققت نجاحًا كبيرًا قبل أن تدب الخلافات بين أعضائها وتتصاعد إلى تهديدات بالقتل بين صديقين تنازعا على قلب فتاة كانت تنام مع رجل ثالث! واتجه فتحى إلى تجارة الموبيليا ثم قفز إلى الديكور ومنهما إلى تجارة الملابس الجاهزة!

لم يسعفنى الوقت لأعرف كيف حدثت كل هذه التنقلات العجيبة فى حياته، بخلاف حياة «شوكت» التى لم تخرج عن حيز ملاعب كرة القدم، فقد كان لاعبًا فاشلًا باقتدار، لم يدعُنا مرة لمشاهدة مباراة فى منافسات الجامعة إلا وانتهت بخسارة فريقه خسارة مهينة، ولم نره مرة يحرز هدفًا أو يمرر كرة ساحرية إلى زميل، لكنه أصيب فى ركبته إصابة كبيرة بفضل الغشم والغباء اللذين يتمتع بهما، واعتزل اللعب، لكنه أصر على أن يواصل اللعب فى النجيل الأخضر، وخضع لبرامج تدريب وكورسات فى التحكيم حتى أتقن التسلل والفاول والكارت الأصفر وأصبح حكمًا فى دورى الدرجة الثالثة، ويرى نفسه أجدر حكم يمكن لـ«فيفا» أن يستعين به لإدارة مباريات كأس العالم المقبلة فى روسيا.

مضى بنا قطار العمر، وتزوجنا وأنجبنا بنات وأولادًا وتعثرت بنا الحياة كثيرًا، والتقينا مجددًا فى ميدان التحرير مع ثورة يناير وما أعقبها من مسيرات وتظاهرات لا حصر لها، وعلى فترات متباعدة كنا نلتقى فى المقاهى والندوات، وكل ذلك لا يجعلنا أقرب إليه من أشقائه كما قال، لكن لا بأس، فالحياة تحتاج الدفء، وكثيرًا ما نبحث عنه فلا نجده إلا عند أشخاص لا تربطنا بهم علاقات الدم، والحقيقة أنه لم يكن من عادة فتحى أن يهاتفنى فى هذا الوقت من الليل، لكن الأمر خطير كما قال، وهو لا يعرف ماذا يفعل، والكلام مش هينفع فى التليفون، وحددّ موعدًا وقال إن «شوكت» كمان جاى.

وفى صباح اليوم التالى، رتبتُ مواعيدى المتداخلة بعشوائية منقطعة النظير، وذهبتُ إليه فى موعدنا، وها نحن نجلس فى ترقب وأمامنا «فؤاد» الذى رأيناه مع والده منذ سبع سنوات فى الميدان، وقد أصبح شابًا مكتمل الرجولة والثقة فى الذات.
- ما تقول يا فتحى «فيه إيه» وقّعت قلبنا يا راجل؟
وفرك فتحى يديه بعصبية وهو ينظر إلى ابنه
- «فؤاد أفندى ماشى مع واحدة متجوزة وعندها عيل ومصمم يتجوزها ويعيش معانا فى الشقة أنا وأمه وأخته»، ورفع فؤاد عينيه وقال بهدوء: اسمها ماشى مع واحدة يا بابا؟!
- وتنهد فتحى: آسف يا سيدى.. بيحب واحدة.
- اسمها «واحدة» برضه يا بابا؟!
- أومال اتنين يا كلب يا ابن ال...
ـــ لأ، اسمها نيرمين.
وعلا صوت فتحى، وتوتر الوضع، وفؤاد لم يتحرك من مكانه، وضغطتُ على يد فتحى حتى يهدأ ونسمع باقى القصة، وقال شوكت ضاحكًا: أنا هاطلع لك الكارت الأصفر والأحمر كمان يا فتحى لو اتكلمت تانى.. اسكت خلينا نسمع فؤاد.
ولم يكن فؤاد على نفس الدرجة من الاهتمام بى أنا وشوكت كعمين اعتباريين جاء بنا والده كى نناقش قضية تخص مستقبله، وبدا عليه انهماك شديد بأزرار الموبايل، فالتفت شوكت نحوى محرجًا، فنقلتُ السؤال إلى فتحى:
- طيب يا فتحى إنت متضايق عشان الشقة ضيقة ولا عشان هى متجوزة ومخلفة؟!
- الاتنين.
- طب إيه المشكلة لو عاش معاكو؟
- أخته هتروح فين يا ناس؟، قالها فتحى بأسى، وسأل شوكت: طب إيه الحل؟، فقال فتحى بعصبية: ما أهو قدامكو أهو اسألوه.
وفؤاد تائه فى ملكوته غارق فى شاشة الموبايل، يريد أن يقذفنا بطفايات السجائر تقريبًا، وشعر فتحى بحرج شديد، وقال بعصبية: ما ترد على أعمامك يا فؤاد.. عيب كده، فرفع فؤاد رأسه وقال: ما فيش حد هيجبرنى على حاجة.. أنا حُر ومسئول عن اختياراتى.
وجاءت السيدة الصغيرة التى ننتظرها، ولم يكن ظاهرًا عليها أعراض حمل سابق وولادة، وإن كان واضحًا على جسدها الممتلئ روائح خبرات ليلية سابقة، وساد صمت قبل أن تقترب منّا، فوقف فتحى وراح يقدّم تعريفات سريعة ومتلاحقة بأسمائنا ووظائفنا، ورحبنا بها وجلسنا، ومال شوكت على أذنى وهمس: البت دى شمال يابا الحاج، فزغدته زغدة قوية بالكوع قبل أن أغرق فى الضحك، ولم أكن أراها كذلك، فهى طيبة الملامح، وجاء الجرسون وطلبتُ القهوة وامتلأت الترابيزة بأكواب زجاجية كبيرة يظهر منها عصير أبيض وأحمر وقطع صغيرة من فاكهة الموز والفراولة غارقة فيها، وأظهرت السيدة الخجل وهى تضع «الشاليموه» بين شفتيها وتشفط العصير، ورحبنا بها مجددًا، وسألها شوكت إن كانت تحب كرة القدم، فأجابت بسرعة ودلع مصنوع: أنا نفسى أقف جون، وضحكنا مجاملة للموقف، ووعدها شوكت بتحقيق حلمها، وغمزها فؤاد بكوعه، فرجعتْ بظهرها للوراء وراحت تنظر فى الموبايل وغرقتْ عيناهما فى الشاشة وعلا صوتهما بالضحك: بيقول لك صواريخ بلاستيك!! هو فيه صواريخ بلاستيك والنبى؟!
- أووف ع الجهل.
- شوفتى كوكب البط اللى إحنا عايشين فيه يا نيمو؟!، وضحكتْ «نيمو» ومالتْ بجسدها كله إلى فؤاد وتحررت فى جلستها، وأراحت كوعها إلى الترابيزة وأسندت رأسها إلى كفها وصوبت عينيها نحوى، وسألتنى: ينفع كده ياعمو والنبى؟! وارتبكتُ، فأنقذنى شوكت، وقال ببذاءة لا تليق: كده ينفع وكده ينفع يا قمر، وطرقعت ضحكة نيرمين، واقتربتْ أكثر من شوكت، وراحت تلعب بخصلات شعرها، وتجلى شوكت واندمج معها وراح يتحدث كجنرال حروب عن الصواريخ وعلاقتها بكرة القدم، فأنت تقول كرة صاروخية، وكرة القدم فى البداية كانت عبارة عن مثانة البقرة، ثم تطورت وأضاف إليها البلاستيك قوة فى الصد والرد والقفز لأعلى، وبذلك يمكن أن تكون كرة القدم من البلاستيك لكن الصاروخ لا يمكن أن يكون من البلاستيك.
فقلت بصوت مرتفع: إحنا جايين نهزر يا جماعة؟، عيب كده، مش لازم كلنا نبقى فاهمين فى كل حاجة، تعرفى الصاروخ بيشتغل إزاى أصلًا يا بنتى؟
- بيجيبوا بتاعتين كبار ويحطوه عليهم كداهون.. وبعدين هو بيضرب لفوق جامد، فرمقتها بنظرة استياء، فرفعت حاجبًا وأرخت آخر: ومالك كده اتخضيت واتعصبت.. إنت منهم يا عمو ولا إيه؟
- همه مين دول؟
- المطبلاتية.
فتبادلت نظرات الأسى واليأس مع فتحى، وطلبنا الحساب، ومضينا فى صمت للخارج.