رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فليسقط الحائط الرابع


«يسقط الحائط الرابع».. عنوان لكتاب مهم وطريف للكاتب الصحفى أنيس منصور، قدم فيه لأبناء جيلنا الستينى، رؤى جديدة بديعة مثيرة للتفكير والتأمل، يعرفك فيه الكاتب بالآخرين، ولا ينسى أن يعرف بنفسه أيضًا، فنحن جميعًا ممثلون، والحياة أحد أدوارنا، وكل واحد له دور، دور مفروض عليه أو هو مفروض على دوره، وبين الممثل والمتفرج ستار، هذا الستار هو الحائط الرابع.. الحائط الوهمى الشفاف.
تذكرت ذلك الكتاب والعنوان أثناء متابعتى للحديث عن التجربة اليابانية فى التعليم وكيف قرر اليابانيون نزع الحائط الرابع من فصولهم، لترى بمجرد مرورك فى الممرات المؤدية للفصول، كل جوانب العملية التعليمية ولا يفصلك عن الأساتذة والطلاب سوى ذلك الحائط الوهمى الشفاف، وذلك فى إطار تفعيل عدد من القيم والمفاهيم التربوية الجادة والحازمة التى لا تقبل أى تنازل فى شكل العلاقة بين المرسل والمتلقى، وبين المدرسة المؤسسة والطالب وولى أمره.
عندما سألوا غاندى لماذا تُنفقون على التعليم وأنتم فقراء؟ قال: إننا ننفق على التعليم لأننا فقراء!! وهو بذلك يصحح المفهوم المغلوط أن الدول الغنية فقط هى التى من حقها تقديم تعليم جيد، بل إن التعليم هو السبيل الأوحد للتحرر من ويلات الفقر.. كتب طه حسين ساخرًا من أعداء مجانية التعليم الإلزامى - فى مقال بتاريخ ٣١ مارس ١٩٣٣ فى كوكب الشرق - يقول: إن آراءهم ترى التعليم ترفًا لا ينبغى لسواد الناس أن تتلقاه، وانتشاره ينذر مصر بخطر الشيوعية، وإذًا فالأمية خير منه!!، وعليه فقد أصدرت حكومة الوفد قرارها بمجانية التعليم الابتدائى فى عام ١٩٤٤، ورأى طه حسين أن نسبة المجانية ما زالت ضئيلة، ولقبول منصب وزير المعارف فى حكومة الوفد عام ١٩٥٠ اشترط أن تلتزم الحكومة بمجانية التعليم الثانوى؛ فقررتها الحكومة ووفرت الاعتمادات المالية. وأعلن الرجل حينها أن كل مدرسة يُطرد منها طالب بسبب المصروفات يتم طرد ناظرها فورًا؛ لأن المجانية التزمت بها الحكومة الشعبية أمام البرلمان، وواجبة النفاذ.
ثم كانت ثورة ١٩٥٢ التى أضافت مجانية التعليم الجامعى، ووسعت فرص الاستفادة من مجانية التعليم قبل الجامعى. ورغم الاتهامات التى ساقها البعض على مجانية التعليم، فما زالت غير قابلة للإلغاء رغم كل الملاحظات التى شابت التطبيق. وقد أكد دستور ٢٠١٤، كل مبادئ الحق فى التعليم للجميع التى أقرتها المواثيق العالمية لحقوق الانسان.. وأعود إلى التجربة اليابانية، فالتحية شىء مقدس فى اليابان فى كل مكان. كما قام التلاميذ اليابانيون بتحية الوفد المصرى بـ(السلام عليكم)، ويرتدى تلاميذ الصفوف الصغرى «كاب أصفر» على رءوسهم، وكذلك غطاء أصفر للحقيبة المدرسية أثناء سيرهم فى الشارع، للفت انتباه الجميع خاصة المرور وسائقى السيارات لتسهيل مرورهم نظرًا لصغر سنهم.
فى المدارس اليابانية، يوجد جهاز مربع صغير يتصل بشاشة كبيرة.. عند وصول التلميذ للمدرسة يستخرج الكارنيه الخاص به، ويلمس به الجهاز المربع، فيظهر اسم التلميذ وتوقيت وصوله للمدرسة من خلال رسالة على موبايل ولى أمره، ليطمئن على وصول ابنه وتوقيت وصوله.. وتهدف مناهج المدارس هناك إلى الارتقاء بالجانب الأخلاقى للتلميذ، وتحقيق المتعة والسعادة، وبناء شخصية متكاملة للتلميذ تترسخ فيها صفات مهمة مثل: الاعتماد على النفس، تحمل المسئولية، القيادة، التعاون والعيش فى جماعة، العطف، حسن الاستماع، تقبل الرأى الآخر وغيرها من الصفات.
وأستأذن القارئ العزيز لعرض بعض أهم الأنشطة التى يحتويها النظام واليوم المدرسى هناك «مجلس الفصل فردى وجماعى، تنفيذ قرارات مجلس الفصل، تناوب القيادة، النظافة، الساعة والانضباط وتقديس الوقت، وأنشطة أخرى كثيرة، كل نشاط له طرق تنفيذ تحقق الأهداف المطلوبة...»، ويبدأ اليوم الدراسى فى الفصل بـ٥ دقائق يقضيها التلاميذ دون معلم فى القراءة أو حل مسائل رياضية.. أثناء ذلك يكون هناك اجتماع بين المدير والمعلمين كذلك مدته ٥ دقائق لطرح أى فكرة أو مناقشة مسألة ما.. أو مشكلة.. وفى اليابان يدرس المعلم للفصل كل المواد بالمرحلة الابتدائية.. فور دخول المعلم الفصل يقوم القائد اليومى للفصل بإلقاء التحية، ويرد عليه المعلم والتلاميذ ويقوم القائد اليومى بتقديم المعلم والمادة واسم الدرس، وعندما يحين وقت الوجبة الغذائية تكون أسرة الإذاعة المدرسية جاهزة لإعلان مكونات الوجبة وقيمتها الغذائية ومعلومات عن الوجبة التى اشترك التلاميذ فى تجهيزها، ثم يتناول التلاميذ والمعلم، الوجبة داخل الفصل وغير مسموح لطفل أن يتبقى منه أى طعام.
ثم تبدأ النظافة ولا يشترط أن تكون بعد الوجبة الغذائية ويقوم تلاميذ المدرسة بالتنظيف فى وقت واحد عن طريق مجموعات يقسمها المعلم وينظف معهم أيضًا ويشجعهم أثناء العمل، والهدف من النظافة ليس تنظيف المكان فى حد ذاته، ولكن تقديس العمل وتحمل المسئولية والاعتماد على الذات ودعم مفهوم التعاون.. أما عن أنشطة الحوار والمناقشة (مجلس الفصل) ٣٥ ساعة مقسمة خلال العام الدراسى، منها ما يقودها التلاميذ بأنفسهم ومنها ما يقودها المعلم، وبالفصل سبورة فى المقدمة يشرح عليها المعلم الدرس، وفى نهاية الفصل سبورة أخرى يعلق عليها جدول الحصص وأهم الأحداث والمناسبات القريبة التى يستعد لها الفصل وما إلى ذلك، وبعد نهاية اليوم الدراسى، يقوم القائد اليومى للفصل بمسح السبورة وتجهيزها لليوم التالى وإغلاق الشبابيك والأنوار وغلق باب الفصل بعد خروج التلاميذ.
وأعود إلى حدوتة إلغاء الحائط الرابع، وأسأل: هل هى خطوة قابلة للتنفيذ على الطريقة المصرية، وأن تكون الأمور على رأى المثل الشعبى (كله على عينك يا تاجر)، ونحن نعلم أن أبواب فصولنا المدرسية من خلفها حواديت وحكايات لا تُحكى ولا تُقال، وإلى أى حد ستلتزم الفصول بدرجة الصوت التى تحفظ للجميع باستمرار العمل دون شوشرة أو معارك؟!.. فلنُسقط الحائط الرابع ونتكل على الله ويكفينا فى البداية تلك الإرادة السياسية للتغيير.