رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حزب الرئيس


يُخطئ من يتصور أن السياسة معناها أن تكون هناك أحزاب.. أو أن الانتخابات هى السياسة.. لكننى للأسف وبعد كل هذا العمر أجدنى محصورًا بين الأمرين.. فالكثيرون فى بلادى لا يتعاملون مع السياسة إلا بهذا المنطق.
اقتربت من عوالم السياسة منذ سنوات طويلة.. كنت طفلًا.. أعيش فى قرية صعيدية لا يهمها من ذلك العالم إلا مقعد انتخابى يأتى كل خمس سنوات عبر ممارسة تستمر لشهرين أو ثلاثة بالأكثر.. والأغرب أن ذلك الفعل السياسى تحول إلى أمر قبلى يزيد من «حمية القانون الأشهر فى الصعيد».. قانون الثأر.
ارتبطت فى ذهنى وأنا طفل ألقوا فى حجره بالصدفة كتب كارل ماركس وديستويفسكى وتولستوى والإمام الغزالى والسهروردى.. «ما تستغربش.. بيوت كثيرة فى صعيد مصر مليئة بطبعات فخمة من هذه الكتب، إلى جانب (السيرة.. وألف ليلة وليلة وغيرها)».
فى ذلك الوقت عرفت عن طريق مدرس التاريخ أن هناك تجربة اسمها «عبدالناصر».. أهدانى كتابًا لمؤلف يوغوسلافى مع مجموعة ديستويفسكى التى ترجمها سامى الدروبى.. نعم.. مدرس تاريخ فى إعدادى فى قلب الصعيد دلنى على عبدالناصر فى عيون الأجانب.. لكن أهلى من فلاحين ومزارعين وصنايعية كانوا يعرفونه أكثر.. فيما كانت العائلة التى تملك «المقعد البرلمانى» ضد عبدالناصر تمامًا.. وبدأت أفهم لماذا تواجد فى عائلتى وفديون.. وأحرار دستوريون.. فى وقت مبكر.. عرفت يعنى إيه أحزاب.. فيما كان من أجالسهم من مزارعين رائعين يحفظون حفنى أحمد حسن وأبوزيد الهلالى.. يحكون عن السد العالى.. ومصنع نجع حمادى.. وأشياء أخرى.. عن الجهادية والرى.. وعمال اليومية.. عن السفر إلى ليبيا والعراق.
باختصار تصورت مثل كثيرين أن السياسة معناها الانتخابات وكرسى «البلد» اللى مش مفروض يروح لمرشح آخر من بلد آخر.. وظل الأمر كذلك حتى دخلنا الجامعة.. وعرفنا أن هناك أحزابًا.. وسلطة ومعارضة.. والباقى أنتم تعرفونه.. وتحولت السلطة إلى طبقة باسم الحزب الحاكم- الوطنى سابقًا- وارتبط فى ذهن المزارعين والأعيان معًا فكرة أنه لا شىء تستطيع إنجازه دون أن تكون عضوًا فى ذلك الحزب من أول صرف «شكاير الكيماوى.. وحتى عضوية البرلمان والحصول على كرسى القرية أو العائلة».
الآن.. يبدو أن البعض قرر أن يستعيد نفس الكتالوج.. لدينا مائة حزب مالهاش لازمة فعلًا.. لكن هل يعنى فشلها أن نبحث لها عن صيغة لجعلها موجودة.. ربما.
فكرة دمج الأحزاب لتصبح ستة أو سبعة أمر جيد.. طالما الهدف أن تكون هناك ممارسة فاعلة حتى تتمكن هذه الكيانات من المشاركة فى التنمية وهى الغرض الأهم من وجهة نظرى.. ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك- من فوق- دون أن يكون عند هؤلاء الأفراد الذين ينتمون لهذه الأحزاب أى رؤية أو رغبة أو قدرة على تحقيق ذلك؟!.
تجربة المنابر التى كوّنها الرئيس السادات ثم أصبحت أحزابًا فشلت بالثلث، وهى التى أوصلتنا الآن إلى هذه الحالة.. وإلغاء الأحزاب القائمة أو الإعلان عن موتها من تلقاء نفسها أيضًا أمر لن يقدم ولن يؤخر.
وسط هذا كله هل يعنى الأمر أننى ضد ما يتحدث عنه البعض بشأن تكوين حزب للسيد الرئيس يصبح ظهيرًا سياسيًا له؟!، بالقطع لا.. لكننى أرفض قطعًا تلك الأطروحات التى تبحث صيغة البناء على عدد من النواب الموجودين حاليًا.. وضم بعض الشحصيات العامة إليهم وتكوين حزب على طريقة الحزب الوطنى القديم.
إيه اللى فكرنا بالأحزاب دلوقتى واحنا فى عز فعل سياسى بامتياز.. نحن على أعتاب انتخابات رئاسية يراها البعض محسومة سلفًا.. وهذا هو الخطر بعينه.. الانتخابات محسومة لكن الفعل السياسى نفسه ليس كذلك.. أنت تريد أن «يشترك» الناس فى الحياة السياسية.. أن يمارسوا أدوارهم الطبيعية.. والتفكير فى المستقبل أمر رائع وضرورى.. لكن من قال إن من استطاع حشد عدد من الناس فى «مؤتمر انتخابى» يستطيع أن يكون عنصرًا فاعلًا فى حزب سياسى.
أتصور أن القيادة السياسية فى البلاد تفكر بشكل مختلف.. وأن ما يتم بناؤه فى البلاد شرقها وغربها.. طولها وعرضها.. يحتاج إلى تفكير مختلف بحجم هذه النقلات الهائلة التى تحدث على الأرض.. لأننا نحتاج إلى سياسيين يساعدوننا فى دفع القطار إلى الأمام.. وليس العكس.. لا نحتاج إلى تجار الكلام.. و«الحشادين».. و«الزياطين».. لا نحتاج إلى متعهدى الأفراح والسرادقات.. نحتاج إلى بيوت تفكر تمشى على قدمين.. يبقى اسمها أحزاب.. نقابات.. أكاديميات.. معاهد.. يبقى اسمها زى ما يكون.. الأهم ماذا ستفعل.. وهل ستكون سندًا قويًا للرئيس فيما ينجزه فعلًا؟، أعتقد أننا فى مرحلة البحث عن إجابات لعشرات الأسئلة التى تتزاحم فى عقول «الكتلة الأكبر والأهم» فى أى فعل سياسى قادم.. شباب مصر.