رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الراقصون على حبال السياسة


يقولون إن السياسة (فن الألعاب القذرة)، وقال عنها الإخوان، فى عهد حكمهم، إن (السياسة نجاسة)، وكانوا أقدر الناس على التعاطى مع هذه النجاسة التى تطابق طبعهم، فانقلبت أحوال البلاد، فى سنة الشقاء التى حكموا فيها مصر، قبل أن تتطهر من نجاستهم وتثور عليهم، وتلقى بنفسها فى نهر (يونيو)، تغسل أدران ما علق بها، تسترد عافيتها ووعيها، دون الغفلة فى غيابات الجُب، الذى أراده لها إخوان الشر..
ومنذ ذلك الحين، قررت مصر، بقيادة عبدالفتاح السيسى، أن تكون دولة أفعال لا أقوال، وأن تُمارس السياسة على طريقتها، طريقة البناء والنماء، وحفظ كرامة المواطن وتحقيق رفاهيته.. وبمجرد أن قال الرئيس السيسى، قبل أسبوع، (أنا لست رجل سياسة)، قامت قيامة البعض ولم تقعد، دون أن يفكر هذا البعض فيما كان يقصده الرئيس بعبارته.
لقد أراد الرئيس أن يبرئ ذمته من الصورة السيئة عن لعبة السياسة، وأنه لم يعتمد، على مدى أربع سنوات، على مواءمات السياسة، بل اعتمد الصراحة دون المواربة، والمكاشفة دون التعمية، والصدمة دون غفلة الشعب، الذى وثق فيه، وسلم له أمانة قيادته إلى بر الأمان، وارتضى أن يكون يدًا بيد مع رئيسه، يتحمل معه بصبر، تبعات خطوات إعادة مصر إلى الحياة.. وقد عاشت قبل ذلك على ألعاب السياسة، مارسها على الشعب أصحاب حيل السياسة، حتى أدخلوه فى نفق مظلم، لم تنقشع ظلمته إلا فى ٢٥ يناير، لكن سرعان، وبعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ، ما امتطى أصحاب السياسة الجدد، صهوة ثورة بدأت طاهرة، وركب الإخوان الموجة، وأدخلوا البلاد فى تيه، بدعاوى، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.. وذهب فرقاء السياسة، كل فى طريق سياسته، يحقق من ورائه مصالحه الشخصية، حتى ولو غرق الوطن، وحتى ولو صار هذا الوطن مُضغة يلوكها إخوان الشر، حتى استنفدوا رحيقها، لولا هبّة الشعب فى يونيو، وقراره أن يعمل، بعيدًا عن أحابيل السياسة.
ولأن رجل المخابرات، الذى يعمل وفق معلومات، يعلم أكثر مما نعلم، ولديه من الوقائع وتدابير المؤامرة، ما لم نُحط به خُبرًا، فقد وعد شعبه، وعلى الملأ، أن ما حدث قبل سبع سنوات، لا يمكن أن يتكرر مرة أخرى.. ليس من قبيل رغبته الانفراد بالسلطة والحفاظ على كرسى الرئاسة، بل لأن الشعب الذى قضى شطرًا من حياته، فى فقر وجهل ومرض وقهر إرادة، لا بد أن يستكمل رحلة علاجه، ويسترد عافيته، ويعود سيرته الأولى، لأنه لم يعد يملك وقتًا يعود فيه إلى ما كان عليه، وإلا ستكون الضربة هذه المرة قاصمة، لن يستقيم معها ظهر الوطن مرة أخرى.. فقد قالوا قديمًا (إن الضربة التى لا تقصم ظهرك تقويك)، هذا عن الضربة الأولى، دون أن يكملوا أن الضربة الثانية، وعلى ذات الموقع من الجسد، تكون مُميتة، ينقصم فيها الظهر دون رجعة لاستقامته.
وهكذا اختار السيسى قدره، وقرر أن يكون آخر الدواء الكى، لأنه العلاج الناجع لشعب عانى كثيرًا من المُسكنات، حتى ولو آلمتنا لسعات النار، المهم أن تأتى العافية، ولأن العافية تتطلب أحيانًا عزل المريض بعيدًا عن ملوثات البيئة وفيروساتها، فقد ناشد السيسى الشعب، غير مرة، أن يثق فيه وأن يطمئن على ما عنده ويفهمه ويراه، ليس احتكارًا منه للمعلومة، ولا سيطرة منه على الناس، لكن حماية لهم من العابثين بعقولهم، المهددين لسلامتهم، فهو راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته، أمام الله والتاريخ.. ألم تر كيف يخاف الأب على وليده، يقيه غائلة المرض، ويحميه من شرار الناس، دون أن يقول لى أحد: كفانا حديثًا عن (الحاكم الأب)، ولكنه الخيط الرفيع الذى يربط بين الراعى والرعية.. لهم منه الحماية والرعاية والكفالة وحفظ الكرامة والحرية، وله منهم الثقة والتقدير والاحترام، والإيمان بما يذهب إليه من أفعال، خاصة لو كان الواقع يدلل على أن أربع سنوات مضت، غيّرت وجه الحياة فى مصر، من النقيض إلى النقيض.. من العزلة الدولية إلى أحضان العالم والإقليم، من التأخر إلى التنمية، من الفقر وسكنى العشوائيات إلى عوالم مدنية شديدة الرفاهية والإنسانية، من المرض بفيروس «سى»، إلى أكبر حملة لمعالجة المرض التاريخى فى مصر.. ولكن!
يظل السيسى مأزومًا لهؤلاء المتحولين، الذين يمارسون السياسة على طريقتهم، مع أن مهنتهم تفترض الحياد والبعد عن الانحياز، حتى ولو للذات، لكنا نرى من يملأ الدنيا ضجيجًا وصياحًا على شاشات، مشكوك فى انتماءاتها، لا ينحازون فى كل عهد إلا لذواتهم وما يحقق مصالحهم، لا يرون أن مصر فى أزمة تتطلب التعاضد والاتفاق على كلمة سواء، فيها مصلحة الوطن والمواطن، لكن هؤلاء المتحولين لا يهجعون، ويصرون على أن يرشفوا من كل عهد رحيق أزهاره، حتى إذا ما ذبلت تلك الأزهار، طاروا من فوقها وانقلبوا عليها، كتلك السيدة التى سبحت بحمد الرئيس الأسبق مبارك، وجوقة حكمه التى أحاطت به، وكانت مستشارة نجله جمال، وعضو حملة الأب الانتخابية، لكنها سرعان ما انقلبت عليه فى لحظة، يوم وجدت أن الشعب يموج ضد الحاكم وحاشيته، ولم يرمش لها جفن، وهى تنقلب عليه، كأنه لم يغن بالأمس، وكأنما لم تأكل خُبزه.