رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليوزباشي مصطفى رفعت


الإنجليز يهدمون محافظة الإسماعيلية ويعزلون المدينة. مجلس الوزراء يتخذ قرارًا خطيرًا بشأن العلاقات بين مصر وإنجلترا.. اجتماع أمس لمدة خمس ساعات واعتبار الجلسة مستمرة إلى غد.. استشهاد ٦٤ ضابطًا وجنديًا مصريًا وإصابة ٢٠٠ وأسر ١٠٠٠ من رجال البوليس.

كانت تلك هي عناوين الصفحة الأولى لجريدة «الأهرام»، صباح السبت ٢٦ يناير ١٩٥٢، وتحتها، وتحت عنوان «شجاعة ضابط مصري» نشرت الجريدة خبرًا، هذا نصه: كتب أمس مندوب وكالة اليونايتد بريس في الإسماعيلية، يقول: إن جميع الذين شهدوا المعركة التي دارت اليوم في الإسماعيلية قد أشادوا بشجاعة البوليس المصري وبسالته. ومما لفت نظر المراقبين أن ضابطًا مصريًا شابًا من الذين تدربوا في سكوتلاند يارد ظل يرفض أن يسلم نفسه حتى عندما صوبت إحدى الدبابات من طراز ستنوربون مدفعها إلى مدخل مقر قيادته، من مسافة ٣٠ ياردة. وقد قال ضابط بريطاني «قولوا إنه غبي إن شئتم، ولكنه لقن الجميع درسًا في الشجاعة». وتحت هذا الخبر، أضافت الأهرام: «هذا الضابط الشاب الذي يتحدث عنه مندوب اليونايتدبريس هو اليوزباشي مصطفى رفعت».

اسمه بالكامل، مصطفى رفعت إبراهيم رفعت، عاد من بعثته الدراسية في إنجلترا سنة ١٩٥١، وتم تعيينه مدرسًا بكلية البوليس، لكنه قرر أن يتركها ويتطوع لتدريب المقاومة في القناة، مع زميليه صلاح دسوقي (صار لاحقًا محافظًا للقاهرة) وصلاح ذو الفقار. نعم، هو نفسه الذي صار فتى الشاشة الأول لاحقًا، أو أحمد حبيب منى (شادية). حصل ثلاثتهم على فرقة «قتال مدن» في القوات المسلحة، ثم طلبوا نقلهم إلى الإسماعيلية، وقاموا بتنظيم الجنود والمقاومة الشعبية، التي كانت الشرطة جزءًا منها، إذ كانت المواجهة بين كل أهالي المدينة وقوات الاحتلال. الجميع انخرطوا في المقاومة، حتى ماسحو الأحذية، كانوا بمجرد سماعهم صوت الرصاص يتركون زبائنهم ويخرجون مسدساتهم، وينطلقون نحو مكان المعركة.

معركة الإسماعيلية لم تكن أول مواجهة تشارك فيها الشرطة المصرية ضد قوات الاحتلال، سبقتها معارك كثيرة في التل الكبير، في كفر عبده، في بورسعيد، وفي السويس. وفي كل تلك المعارك، وكذا في معركة ٢٥ يناير، معركة الإسماعيلية، لم يكن هناك فاصل بين الشرطة وأهالي تلك المدن، وكان رجال الشرطة يساعدون الفدائيين ويتسترون عليهم، ويشتركون معهم في أي معركة وفي عملياتهم ضد معسكرات قوات الاحتلال. للدرجة التي جعلت البريطانيين يطلقون عليهم اسم Black locust أي الجراد الأسود.

لم تصدر أي أوامر من القاهرة. ولم يتصل الضابط الشاب بأي قيادات أمنية في القاهرة، ولم يستطلع أو يطلب رأيها. وخدعوك فقالوا (ونشروا) أن الأوامر صدرت من القاهرة بعدم الرضوخ للأوامر البريطانية. وأن وزير الداخلية في ذلك الوقت، فؤاد سراج الدين، كان صاحب قرار المواجهة. بينما يقول الواقع أن الضابط الشاب، الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين، هو من كان يصدر الأوامر، ويدير المعركة. ويجري المفاوضات مع واكسهام، الضابط الإنجليزي الذي نفذ الهجوم وحاصر، بعشرين دبابة وعشرات المدرعات وآلاف الجنود، مبنى المحافظة أو قسم البوليس والمستوصف. ومع ذلك، لم ينسب هذا الرجل العظيم، طوال حياته، الفضل لنفسه. بل كان يؤكد دائمًا أن الجنود (العساكر) كانوا هم أصحاب القرار، وأنهم اتفقوا على أن يضربوا من يتراجع بالرصاص. وأنه ما كان يستطيع التسليم أو الاستسلام، لأنهم كانوا سيقتلونه «فضلت أن أموت وسط جنودي، على أن أموت بأيديهم».

بدأت المعركة في الساعة السادسة صباحًا. وفي الحادية عشرة تلقى عامل التليفون اتصالًا من فؤاد سراج الدين، وزير الداخلية، وطلب منه التحدث إلى الضابط المسئول. وبعد استفسر عما يحدث وعرف عدد الضحايا، سأله عن قراره، فأجاب الضابط الشاب، بأنه وجنوده (العساكر) قرروا ألا يستسلموا «سنقاوم لآخر طلقة، ولن يتسلموا إلا جثثًا هامدة». سأل الوزير مرة أخرى «ده قراركم النهائي؟» ولما كانت الإجابة بـ«نعم»، قال «شدوا حيلكم وانتهت المكالمة»، ولم تتبعها اتصالات أخرى، إذ لم تمضِ دقائق على خروج الضابط الشاب، إلا وسقطت دانة دبابة، نسفت الحجرة وفيها عامل التليفون!.

ومع استمرار المعركة، نفدت الذخيرة، فقام الأهالي بإمداد قوات الشرطة بما لديهم منها، إلى أن نفدت الذخيرة داخل المدينة كلها. وبوصول مايتوس، قائد المنطقة، في الخامسة والنصف مساءً، وبعد موافقته على شروط «رفعت»، كان قرار الاستسلام.

كانت الشروط هي أن يخرجوا من مبنى المحافظة في طابور طويل بالخطوة المعتادة، وألا يرفعوا أيديهم مثل الأسري، وأن يتم التعامل معهم بـ«كلمة شرف» وألا يتم نزع العلم المصري من أعلى مبنى المحافظة. ولم تتم الموافقة على شروط «المهزومين» فقط، بل قام قائدا القوات البريطانية، اكسهام وماتيوس، بالانحناء لهمم وخلعا قبعتيهما احترامًا قبل أن يتم اقتيادهم إلى معتقل في صحراء الإسماعيلية. وبعد اعتقال دام خمسة أشهر، تم عزل اليوزباشي (النقيب) مصطفى رفعت من الشرطة. ولم يعد إلا بعد الثورة، ثورة يوليو، وقام الرئيس جمال عبدالناصر بتكريمه ومنحه وسام الجمهورية، وواصل عمله حتى وصل إلى رتبة لواء، ومساعد أول لوزير الداخلية.

..وتبقى الإشارة، إلى أن جريدة «الأهرام»، التي احتفت على صدر صفحتها الأولى، في ٢٦ يناير ١٩٥٢بالخبر السابق ذكره، خبر «شجاعة ضابط مصري»، نشرت في ١٣ يوليو ٢٠١٢ «إنا لله وإنا إليه راجعون، توفي إلى رحمة الله تعالى اللواء دكتور مصطفى رفعت إبراهيم رفعت مساعد أول وزير الداخلية سابقًا»: مجرد نعي في صفحات الوفيات!.