رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفريق شفيق.. لكل زمان دولة ورجال


كالحلم بليلة صيف باردة، بعد يوم قائظ الحر، كان توق المصريين أن يأتى الفريق أحمد شفيق، نائبًا لرئيس الجمهورية، أو رئيسًا لوزراء مصر.. فالرجل الذى قاد سلاح الجو المصرى لفترة، وأصبح وزيرًا للطيران المدنى، أحال بهو الدخول إلى أرض المحروسة إلى حالة من الوهج، وجعل من مطار القاهرة الجوى رصيفًا لأحدث المطارات العالمية، بعد فترة طويلة من الإهمال، شهدتها مطارات مصر، جعلت القادم إلى صالات مطارنا يدرك الفرق بين أضواء مطارات قدِم منها، حتى العربية، وعتمة أركان مطارنا وظلمة جنباته، وسوء خدماته، التى سرعان ما تبدلت وتطورت على أيدى ذلك الرجل، حتى سعدنا بما أصبحت عليه مطاراتنا، بفكر منظم، لرجل جاء من مؤسسة وطنية، النظام أهم أركانها، والإنجاز أول أهدافها.
لذا، فقد رأى كثير من المصريين أن رجلًا، مثل الفريق شفيق، يمكن أن يقود دفة السفينة فى أرجاء البلاد التى اضطربت أركانها وتهلهلت معالمها، بعد زواج المال بالسلطة، فى نظام حكم شارف على الثلاثين عامًا، لم يملك خلالها الشجاعة على مواجهة المشاكل فحسب، بل كان الإهمال عنوان أى مشروع للإصلاح فى مصر، الكيان الذى يستحق أن يكون مضارعًا للدول الحديثة فى عصرنا الحالى.
وعندما بدأ الحلم يتحقق، بتولى الرجل منصبًا، يمكن أن يضع من خلاله لمساته على وجه الحياة فى البلاد، كان الوقت قد فات، وبدأ الشارع يموج فى غضبه، وأفلح الكارهون للإصلاح بمصر فى أن يدفعوا بالفريق إلى الاستقالة من منصبه، رئيسًا لوزراء مصر.. وكان ذلك هو انسحابه الأول من ميدان معركة، كان يجب أن يتحلى فيها برباطة الجأش والثبات الانفعالى، والانتصار لمصالح بلاده، وإدراك أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن استقالته جاءت استجابة فورية لما أراده البعض من الكيد لمصر.. ثم حانت فرصته الثانية فى خدمة بلاده، عندما خاض الفريق انتخابات الرئاسة المصرية، بعد أحداث يناير ٢٠١١، ومنحه كثير من المصريين صك الثقة فيه، وفى المؤسسة التى انتمى إليها حينًا من الدهر، إلى أن أتمت المؤامرة نصب شباكها، وخرج الفريق من السباق، إما زورًا أو حقيقة، فالزمن أولى بكشف الحقائق، إلا أنه سرعان ما انسحب من المواجهة، ولملم أوراقه، وذهب بعيدًا عن مصر، مجافيًا صفة النبلاء فى ضرورة البقاء فى الميدان محاربًا، حتى ولو تلقى الطعنات، وفضل النأى بذاته على الانتصار لإرادة جموع واسعة من الشعب، لم «تعصر على نفسها ليمونة»، كما أشاع البعض، ولكن ثقة منهم فى أن من وشم ساعده بخاتم العسكرية المصرية، حرى به أن يكون فاعلًا فى المعادلة السياسية المضطربة فى مصر.
ولأن مصر محفوظة بحفظ الله دومًا، فقد قيد الله لها من تصدى للمواجهة، لينتشلها من وهدتها، ويخلصها من براثن جماعة أرادت لأرض الكنانة ذوبانًا فى تنظيمها الدولى، ومركزه أنقرة بزعامة أردوغان، الذى حمل لواء تحريض العالم على ما اسماه بهتانًا انقلابًا على الشرعية فى مصر، وقد صمّ أذنيه عن صيحات الملايين التى خرجت إلى ميادين مصر، فى ٣٠ يوليو، مطالبة برحيل ظل مرشد الإخوان فى بيت الرئاسة المصرية.. ومثلما اعتاد الفريق أن يرى الأشياء من علٍ بحكم كونه طيارًا نقطة صماء بلا تفاصيل، فإنه لم يقف على ما جرى فى مصر، على مدى أكثر من خمس سنوات، لأن رؤيته التى تخلّت عن علوها، جاءت، هذه المرة، عن بعد، بمقدار المسافة التى تفصل القاهرة عن أبوظبى، فى دولة الإمارات العربية المتحدة، التى استضافت من استجار بها، فأكرمت وفادته، وأنزلته وأهله، ضيوفًا أعزاء على أرضها.. وفى هذه المرة أيضًا، لم يستبن الفريق تفاصيل الصورة التى يبدو أنه استهان بما تحتويه من تحديات صعبة وقاسية على الرئيس الذى تولى المسئولية بشجاعة، وعلى الشعب الذى تحمل فاتورة رفضه حكم الإخوان، ورغبته فى تغيير صورة مصر التى علت الكآبة ملامحها، على مدى أكثر من ثلاثين عامًا مضت.. كل ما فكر فيه الفريق أن كرسى الرئاسة قارب من جديد أن يكون محلًا للمنافسة، فلماذا لا يراهن عليه؟!.. غير مدرك أن الظرف التاريخى تغير، وأن الشعب استيقظ من الحلم به، لأن من أعطاه ظهره فى الشدائد، لا يمكن أن يعطيه وجهه عند الرخاء.
وعاد الفريق شفيق إلى أرض الوطن، وكلما كانت الطائرة الخاصة التى أقلته فى رحلة العودة، تقترب من القاهرة، كانت تفاصيل الصورة فى مصر تبدو أوضح، وأصبح يرى بقوة ما بداخلها من حقائق مذهلة.. فالبلد الذى تركه خلف ظهره، ركامًا تُطبق على رقبته جماعة الشر، لم يعد كذلك.. رأى فيما يرى الناظر من نافذة طائرته، أن جيش مصر وشرطتها يخوضان معركتهما ضد الإرهاب الذى استشرى فى سيناء زمن إخوان الشر، كما يخوض القائد، وإلى جواره الشعب، معركة بناء، تحولت مصر فيها إلى ورشة عمل كبيرة، بعد أن تخلصت من أوزار ما فعله بعض أبنائها بها.. طرق شقت لنفسها مكانًا عبر الدروب، تربط مواقع الإنتاج بالأسواق، وتصل ما انفصل بين أبناء الوطن، رغم بعد المسافات.. أنفاق تعيد لُحمة سيناء بالوطن الأم، تحت قناة السويس، أُناس عاشوا أحلك أيامهم بين المقابر، وتحت تهديد الموت، فى عشوائيات خطيرة، انتقلوا للعيش فى مدن تليق بكرامة الإنسان المصرى الذى علم العالم يومًا أن الحضارة إنسان، قبل أن تكون علوًا فى البنيان.. رأى الفريق رمالًا صفراء كساها الاخضرار، فى أكبر مشروع استصلاح أراضٍ تشهده مصر.. وغيره كثير مما جعله الرئيس عبدالفتاح السيسى بافتتاحاته الآن بيانًا عمليًا للناس، وكشف حساب عن فترة رئاسته الأولى، لم يكتبه بمداد القلم، بل حفر سطوره بالعرق والدم، بالجهد والإخلاص، فوق الصخور وبين الرمال، شاهدًا على أنه لم يُفرط فى الأمانة، ولم يراهن على مكسب شخصى، بل واجه التحدى بشجاعة، حتى ولو لم يفهم البعض مرامى وأهداف ما تحققه مشروعات التنمية فى مصر، لكن القريب كفيل بإفهام من لم يفهم من أبناء الوطن، بعد أن سبقهم الغرباء فى فهم أن السيسى «قاد بشجاعة، منظومة الإصلاح والتنمية فى مصر، وجعل من بلاده مكانًا أفضل لجذب الاستثمار». وما إن هبط الفريق شفيق أرض مصر، سالمًا آمنًا، حتى جلس فى بيته يُكمل اطلاعه على حقيقة ما جرى خلال سنوات بُعاده، من مشروعات تمت فى زمن قياسى، وكسرت كل مألوف عرفه البشر عن زمن الإنجاز، وأدرك، بعدما أبصر ما جرى، أنه لا بد من إعادة النظر فيما ذهب إليه سابقًا، فالحمل ثقيل، والمسئولية عظيمة، وأن من بدأ الإصلاح لا بد أن يستكمله، أفضل من البدء ثانية من نقطة الصفر، وهنا قال كلمته: «كنت قد قررت لدى عودتى إلى أرض الوطن الحبيب، أن أُعيد تقدير الموقف العام، بشأن ما سبق أن أعلنته أثناء وجودى بدولة الإمارات العربية المتحدة، مقدرًا أن غيابى لفترة زادت على الخمس سنوات، ربما أبعدنى عن المتابعة الدقيقة لما يجرى على أرض وطننا من تطورات وإنجازات، رغم صعوبة الظروف التى أوجدتها أعمال العنف والإرهاب.. وبالمتابعة للواقع، فقد رأيت أننى لن أكون الشخص الأمثل لقيادة أمور الدولة خلال الفترة القادمة.. ولذلك قررت عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.. داعيًا الله، عز وجل، أن يكلل جهود الدولة فى استكمال مسيرة التطور والإنجاز لمصرنا الغالية».. وبذلك وضع شفيق حدًا للجدل الذى ثار منذ إعلانه رغبته فى الترشح للانتخابات أثناء إقامته فى دولة الإمارات.. قطع الطريق على من يصطادون فى الماء العكر، وعاد إلى الحق، وتلك فضيلة لا يتحلى بها إلا الرجال.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.