رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعد الدين إبراهيم والحج إلى تل أبيب



ليس هناك أسوأ من (المثقف)، الذى يبيع قضايا أمته، ويُقايض على حريتها وكرامتها، ويستبدل انتماءه إلى شعبه وقضاياه، مهما كانت المبررات والذرائع، بانتماءات مشبوهة، تلعب على كل الحبال، وتأكل على كل الموائد، وتخدم كل السلاطين، وتتمايل كيفما يميل الريح، وتتحرك الأهواء.
و«سعدالدين إبراهيم» نموذج (عبقرى) لهذه النوعية الكريهة من (المثقفين) الذين يتلونون حسب الحاجة، ويُغَيِّرون أقنعتهم، حسبما تقتضى المصلحة!.
فبعد أن انحسرت الأضواء، أو كادت، عنه، بحصار دور دويلة قطر، الذى طالما روج له، وتباهى بعمق روابطه مع كبار الحكام المعادين لمصر فيها، وانكشاف حقيقة جماعة «الإخوان» وفرق «الإسلام السياسى» والتكفير والتطرف الأخرى، التى كان عرّابها فى العلاقة مع الراعى الأمريكى، باعترافاته المتكررة، وتراجع إمكانيات الصلح، كما كان يأمل، مع رموزها الإجرامية، التى يقبع أغلبهم فى السجون، وبعد أن تراجع حجم وتأثير جماعات التمويل الأجنبى، التى كان «سعدالدين»، أحد أهم مداخلها لتلقى الدعم المادى الأمريكى، ارتأى أستاذ علم الاجتماع أن يعود إلى الأضواء مرة أخرى، ولو عبر عملية انتحارية مشبوهة، يوجه فيها طعنةً نجلاء لشعبه وقضيته.
اختار هذه المرة العودة بالعبور من خلال البوابة الصهيونية، بمحاضرة يلقيها فى مركز «موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا»، حول «قرن من الاضطرابات السياسية فى مصر»، وأن يكمل دوره بلقاء مع التليفزيون الإسرائيلى، منوهًا بما سماه «الديمقراطية الإسرائيلية»، فى سلوك يتحدى الإجماع الوطنى، بل العالمى، الذى سبق أن وصم الصهيونية بالعنصرية، ورفض، فى الأيام القليلة الماضية، مسايرة ضغوط ولايات «ترامب» المتحدة، فى موضوع نقل السفارة إلى القدس المحتلة، ثم فى الاستنكار واسع المدى لإرهاب الدولة الإسرائيلية فى مواجهة الشعب الفلسطينى الأعزل، بكافة فئاته، المُحاصر بقهر الاحتلال الإسرائيلى، وإذلال القوة الغاشمة.
وبالطبع لم يجرؤ «سعدالدين إبراهيم» أن يوجه كلمة انتقاد واحدة لمضيفيه الصهاينة، أو أن يتحدث بأى صورة عن الحقوق الفلسطينية المنهوبة، أو أن يُشير ولو إشارة عابرة، إلى قرن من اغتصاب الحقوق العربية منذ وعد «بلفور» المشئوم، الذى حلّت ذكراه المئوية منذ أشهر قليلة.
قد يذهب السياسى، إلى انتهاج مسلكيات بإرادته، أو يكون مُجبرًا عليها، لكن المثقف الحقيقى، المخلص لتراب وطنه وأحلام شعبه، غير مُلزَمٍ بهذا السلوك، ولا على فعل شىء لا يُرضى ضميره، أو يُقنع عقله، أو يُريح وجدانه، بل العكس هو الصحيح، إذ عليه أن يكون حائط الصد الذى يذود عن القيم والمبادئ والمصالح الوطنية، وعليه أن يملك شجاعة أن يقول «لا» حينما يتوجب قولها، لرجل السياسة إن تجاوز أو فرّط، مهما كلَّفته من ثمن، وحمَّلته من مصاعب.
وقد يجاوز السياسى حدود الوطنية، فيخسر أنصاره، أما المثقف فإنه يخسر نفسه، وهى كل شىء، إن فعل، فينفصل عن الجماعة الوطنية انفصالًا تامًا، ويتحول إلى رديف لمعسكر الأعداء، ويكون أخطر من الخصم المكشوف، لأنه يلعب دور «الطابور الخامس»، الذى يُخرِّبُ فى الظلام، ويثبط الهمم، ويشكك فى ثوابت الوطن، ويطعنه فى الصميم.
إن «انتفاضة» المثقفين، المصريين والعرب، بتوقيع عشرات المئات على بيان إدانة هذه الزيارة البائسة، بمدلولاتها ومعانيها، هى أكبر دليل على أن الوعى بالخطر الصهيونى لا يزال يقظًا، وأن هناك خطوطا حمراء لن يُسامحوا فى اجتيازها، وأن «الحج إلى تل أبيب»، حسب «توجيهات» الأب الروحى الأمريكى، لن يُبَيِّض الصفحة التى لطختها الأوحال.