رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجمعة الحزينة


كانوا يعلموننا فى فصول مدارس الأحد، أن كل الأيام مقدسة، إلا أن أيام صوم ما قبل عيد القيامة المجيد هى أكثرها قداسة من بين أيام الأصوام، ثم إن أكثر أيام ذلك الصوم قداسة هى أيام صوم أسبوع الآلام، وصولًا للقناعة بأن يوم الجمعة الكبيرة أو الحزينة هو أقدس يوم فى أسبوع الآلام كله قداسة، وهكذا يكون أقدس أيام السنة، وأكثرها عمقًا وروحانية وتأثيرًا فى نفس الناس.

إن المحبة تبلغ فى أعظم تجلياتها ومعانيها فى أحداث تلك الجمعة، حينما نشهد صعود تلك القيمة الروحية على خشبة الصليب فى مواجهة الاختبار المؤلم والقاسى وغير المتصور احتماله، فكانت النصرة القوية بالعطاء والبذل، ولم لا؟! فقد علمتنا آيات الكتاب المقدس أن الذى لا يستطيع أن يبذل، هو فى النهاية إنسان لا يحب، أما لو أحب بصدق، فإنه يبذل، وكلما يزداد حبه، يزداد بذله، حتى يبذل كل شىء.

وفى قراءة روحية لقداسة البابا شنودة الثالث لأحداث أسبوع الآلام و«الجمعة الحزينة»، قال: «إن يهوذا لم يكن هو الخائن الوحيد فى قصة الصلب.ألم يكونوا خائنين أيضًا أولئك الذين صرخوا قائلين «أصلبه أصلبه» «دمه علينا وعلى أولادنًا» «مت 27: 25»، هؤلاء الذين شفى المسيح مرضهم، وأخرج من بعضهم شياطين، وأطعم جياعهم، وصنع معهم معجزات لم يصنعها أحد من قبل.. وأخيرًا نسوا له كل إحساناته، وفضلوا عليه لصًا هو بارا باس.. ! (متى 27: 20) ولم يكتفوا بالاتهامات والشكاية إلى الحكام، إنما أشبعوه إهانات وسخرية وتهكمًا ولطمًا وضربًا وبصاقًا.. وكانوا يلطمونه قائلين «تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟ (متى 26: 68) كل هذا، ضد المسيح الوديع الطيب، الذى قال عنه الكتاب (لا يخاصم، ولا يصيح ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ» (متى 12: 20، أش 42: 3). حقًا كم كان أبشع البشرية يوم الجمعة الكبيرة.. ..

ولعل فى تلك القراءة ما يبلسم جراح الفتاة المسيحية الكاتبة الموهوبة «ساندى إدوارد» فقد كتبت على صفحتها الفسبوكية معلقة على أحداث انفجار شلالات الكراهية فى إسكندرية وطنطا، كتبت «من قتلنى ليس داعش، فداعش لا أعرفها ولا تعرفنى. من قتلنى كثيرون داخل بلدى، قتلوننى حتى قبل أن تولد داعش.

-قتلنى إمام المسجد المواجه لبيتنا عندما كرر مناديًا وداعيًا «اللهم عليك بالنصارى واليهود، شتت شملهم، فرق جمعهم، اجعل تدميرهم فى تدبيرهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدريا «أرحم الراحمين» ويرد المصلون « آآآآآمين.

-قتلنى معلمى فى المدرسة حينما أخرجنى خارج الفصل وكأننى متشردة وذلك كى يدرس أخوتى التلاميذ حصة الدين الاسلامى وأظل فى حوش المدرسة لا أجد كرسيًا أجلس عليه وتحوم الأسئلة حول رأسى قائلة، لماذا أنا فى الخارج وزميلتى فى الداخل ؟

-قتلنى شيوخ الفتاوى بفتاواهم على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعى بتحريم تهنئتى بالعيد وتحريم مصافحتى وتحريم الجلوس فى مكان أنا فيه وتحريم وقوف التاكسى ليوصلنى إلى كنيستى وتتواصل سلسلة التحريم لتصل إلى تحريم حياتى من الأساس.

-قتلنى مجلس نواب الأمة حينما أرسى قواعد التفرقة بين المصرى والمصرى على أساس الدين والعقيدة ففرض على بناء كنيستى قيودًا جائرة لم يفرضها على بناء مسجد لشقيقى المصرى المسلم.

- قتلنى .. .. .. وقتلنى .. .. .. .. القتلة كثيرون. ولا لوم على داعش فكلنا دواعش...» انتهى الاقتباس من شذرات حزينة لشابة فى مقتبل حياتها العملية فى يوم الجمعة الحزينة.. أما نيافة الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس فقد قال فى جنازة شهداء طنطا: «صحيح بنحب الاستشهاد لكننا أيضًا نحب الحياة.. نحن لا نكره الحياة على الأرض.. ربنا أوجدنا على الأرض عشان نعيش مش عشان نموت» وأضاف: «كون أننا نستقبل الموت بفلسفة روحانية مش معناها إن دمنا رخيص ومش معناها إننا مش فارقة معانا.. نحن لا ننتحر.. بل نشهد للمسيح سواء بحياتنا أو انتقالنا للسماء.. إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت.. السيد المسيح قال: جئت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل.. نحن لا نحزن.. قد نتأثر للفراق.. فالسيد المسيح نفسه رأيناه بالأمس يبكى عند قبر لعازر لأنه تأثر بحزن الأختين وأصدقاء لعازر.. نتأثر بمشاعر إنسانية ولكن ما يسندنا هو الإيمان».

أخيرًا، أود الإشادة بالمتابعات الإعلامية للأحداث الأخيرة عبر كل وسائط الميديا، فقد جاء معظمها رائعًا ووطنيًا، وبهذه المناسبة ودون مجاملة لجريدة أشرف بالكتابة إليها منذ سنوات، فقد جاءت كل أعداد جريدتنا «الدستور» فى تغطياتها لكل جوانب الأحداث الأخيرة غاية فى الموضوعية وتنوع أشكال المادة المقدمة بتعاطف نبيل دون تهويل ببكائيات مرضية أو تهوين يجرح بيوت الضحايا، ومن تم استهدافهم على أساس الهوية الدينية، وسمو فوق التقسيمات الطائفية.. ولم لا ورئيس مجلس الإدارة والتحرير أستاذ أكاديمى فى علوم الإعلام، وعليه كانت التحية واجبة.