رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من صفات النبى صلى الله عليه وسلم «3-2»


تقول جميع المصادر الموثوقة «كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، رغم أميته، بما يفوق أهل البلاغة العرب جميعًا، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذى لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهى الذى مدده الوحى‏.‏


وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه الله بها، ولذلك فإنه، صلى الله عليه وسلم، يقول « أدبنى ربى فأحسن تأديبى». وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه،صلى الله عليه وسلم، لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرًا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلمًا، وقالت عائشة‏:‏ ما خير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها‏.‏ وكان أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضًا.‏

وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطى عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس‏:‏ كان النبى، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وأجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه فى كل ليلةٍ من رمضان، فيدارسه القرآن، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة‏.‏ وقال جابر‏:‏ ما سئل شيئًا قط فقال‏:‏ لا‏.‏

وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذى لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابتٌ لا يبرح، ومقبلٌ لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاعٌ إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحُفظت عنه جولة سواه، قال علي‏:‏ كنا إذا حمى البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه‏.‏ قال أنس‏:‏ فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرسٍ لأبى طلحة عُرْى، فى عنقه السيف، وهو يقول‏:‏ ‏«‏لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا‏»‏‏.‏

وكان أشد الناس حياءً وإغضاءً، قال أبو سعيد الخدرى‏:‏ كان أشد حياءً من العذراء فى خِدْرها، وإذا كره شيئًا عرف فى وجهه‏.‏ وكان لا يثبت نظره فى وجه أحدٍ، خافض الطرف‏.‏ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياءً وكرم نفس، وكان لا يسمى رجلاً بلغ عنه شىء يكرهه، بل يقول‏.‏ ‏«‏ما بال أقوام يصنعون كذا‏».‏

وكان أحق الناس بقول الفرزدق‏:‏

يغضى حياءً ويغضى من مهابته - فــلا يكلـم إلا حيـن يبتسـم

وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه فى الجاهلية قبل الإسلام، روى الترمذى عن علىٍ أن أبا جهل قال له‏:‏ إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏«‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏»‏ ‏«‏الأنعام‏:‏33‏».‏ وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وكان أشد الناس تواضعًا، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له، كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس فى أصحابه كأحدهم، قالت عائشة‏:‏ كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم فى بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه‏.‏

وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدبًا، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا لعانًا، ولا صخابا فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدًا يمشى خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه فى مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أفٍ قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرًا لفقره‏.‏ كان فى بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل‏:‏ علىّ ذبحها، وقال آخر‏:‏ علىّ سلخها، وقال آخر علىّ طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏«‏وعلىّ جمع الحطب‏»، فقالوا‏:‏ نحن نكفيك‏.‏ فقال‏:‏ ‏«‏قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه‏»، وقام وجمع الحطب‏.‏

وقال قائلٌ منهم يصف لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كان رسول الله،صلى الله عليه وسلم، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافى ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئًا، ولم يكن يذم ذواقًا ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشىء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار، أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام‏.‏

وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره‏.‏ وكان يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره‏.‏. انتهت تلك النقول العظيمة وللحديث صلة . وبالله التوفيق.