رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكتابة والحقيقة


مشكوراً كتب اللواء أحمد عبدالفتاح تحت عنوان «الكاتب المخلص الكتابة قدره» مقالاً جميلاً مشبعاً بهموم الأدباء والكتابة وذلك رداً على مقال سابق لى بعنوان «لن أكتب هذا المقال». وقد أعادنى ما كتبه إلى أسماء أرباب السيف والقلم الوضيئة، ودفعنى لمواصلة الحديث فى الموضوع ذاته نعم الكتابة كما يقول اللواء أحمد عبدالفتاح هى قدر الكاتب، حتى لو كان مردودها ضعيفاً، لأنها وثيقة الصلة بالرغبة فى إعلان الحقيقة. وتحضرنى بهذا الصدد قصة قصيرة للكاتب الإيطالى العظيم دينو بوتزاتى (1906-1972) اسمها «الخبر»، يتحدث فيها عن مايسترو شهير يقود بحرارة وإلهام السيمفونية الثامنة لبرامز فى دار الأوبرا. المايسترو وعازفو الأوركسترا والنغم والجمهور والضوء والمقاعد والأنفاس كل ذلك ينبض فى قلب واحد. الاتصال الخفى السحرى بشفرته غير المعروفة يسرى فى الجو بين المايسترو والجمهور. لكن فجأة، ينقل أحدهم إلى الصالة خبراً أن المعتدين يهاجمون روما. أى معتدين ؟ لا ندرى. ويبدأ الجمهور بهدوء واحداً بعد الآخر فى مغادرة القاعة. وحين يرهف المايسترو السمع يتناهى إليه من وراء كتفيه ومن حوله ومن أعلى صرير ضعيف، وهمهمات، وخطوات متلصصة، وتنقلات لمقاعد، وأبواب تفتح وتغلق. وينظر المايسترو بجانب عينه فيلاحظ ازدياد الأماكن الخالية. كان المايسترو مقبلاً فى تلك اللحظات على الحركة الأخيرة من السيمفونية، الحركة التى تعزف بحماس وفرح، وينبغى أن يصل بعد قليل إلى النقطة الحاسمة: إلى طرقة النجاح السعيد. لكن خيط الإلهام السحرى ينقطع فجأة ويأخذ كل شيء فى الانهيار داخل المايسترو وحوله. وأصبحت إشارات عصا القيادة الصغيرة ميكانيكية تماماً. خيانة الجمهور كانت مفاجئة وصادمة وتركت المايسترو هامداً. قال المايسترو لنفسه: «هذا الجمهور جبان»، قالها وهو يزن حجم الهلع الذى استولى عليه هو شخصياً وجعله يفكر: «إلى أين يذهب لو أن الحرب اندلعت فعلاً؟ وما العمل فى الفيللا التى بناها لتوه؟

هل يهرب إلى خارج البلاد؟». لقد تمزق خيط الإلهام السحرى فى الذعر الذى سيطر على الجمهور والمايسترو. وفجأة ومضت فى عقل المايسترو وهو واقف على منصة المسرح فى قصة دينو بوتزاتى أن الخلاص الوحيد أمامه أن يستمر فى عمله حتى النهاية وأن يثبت مكانه، وأن فى ذلك الاستمرار وحده نجاته هو والآخرين أيضاً. بذلك الإيمان انتفض المايسترو وألقى على أعضاء الأوركسترا نظرة حية ورفع عصاته الصغيرة وعادت الحياة تسرى فى القاعة، وانبعثت الروح ثانية فى اللحن الذى خمد، وسيطر الشوق إلى الحقيقة على القاعة، على العازفين، والجمهور، والنغم، والضوء، والمقاعد، الشوق إلى الحقيقة الذى هو أصل كل كتابة، والذى يجعل من الكتابة «قدر الكاتب». وعلى الكاتب حينما تنتابه نوبات الشك فى جدوى عمله، أن يتذكر أن واجبه أنيواصل عزف النغمة إلى النهاية حتى عندما يصل الأعداء إلى بوابات المدينة، وحتى عندما يصاب الجمهور بالذعر، ويغادر القاعة متسللاً واحداً بعد الآخر، وحتى عندما يجد الكاتب نفسه معلقاً وحده فى فراغ من الهواجس والشكوك، عليه أن يرفع قلمه النحيف عالياً فى الهواء وأن يواصل عزف النغمة التى تجمع الحقيقة إلى الجمال.