رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المواطن المصرى.. بين الترشيد والتبديد


فلسفة النكتة اللاذعة فى الشارع المصرى.. ترصد وتتصيَّد المشكلة من جذورها؛ لأنه لا أحد يملك فى يده سلطة اتخاذ القرار.

وقد شاعت «نكتة» تنطوى على مغزى عميق، يستوجب التأمل فى طريقة الصياغة دون أدنى افتئات على المعانى أو اللغة. تقول: إن رجلاً كان يصارع ويلتقط آخر حصته من الأوكسجين على ظهر الدنيا على فراش الموت، ويسأل من حوله عن الزوجة والأولاد والبنات وفين خديجة وحفيظة وفكيهة وعلى ومصطفى ومخيمر، وأخواتى البنات وأولادهن، وإخوتى الرجال وأولادهم، فيصرخون فى صوت واحد: الجميع هنا فى وداعك.. لاتقلق ! لينتفض الرجل من رقدته الأخيرة ويقول بأعلى صريخ الهمس فى حنجرته: كلكم حولي؟ إذن لمن ولماذا تتركون (نور الصالة والع) يامبذرين ياأخوة الشياطين؟!

نعم..هو التبديد عينه! والرجل فى النزع الأخير؛ حريص على عدم إهدار الطاقة، ليس عن بخل، ولكنه يعطى درسًا فى المحافظة على «الطاقة» التى تعد العمود الفقرى للحياة، وعمود الإدارة لكل ورشة ومصنع ومستشفى ومدرسة، وبغير هذه الطاقة ستصاب الحياة بالشلل التام، وليس الحل فى رفع أسعار الكهرباء الذى أقدمت عليه الدولة أخيرًا فهو ليس الطريق الأمثل لحل المشكلة، ولكنه «مسكِّن مؤقت» يؤجل انفجارها فقط! والطريق إلى وضع الحلول يبدأ بالتوعية والمشاركة الشعبية فى تحمل الأعباء مع الدولة، ليكون الوعى باستهلاك الطاقة بمثابة «ثقافة شعب» يعى تمامًا مبادئ المسئولية القومية؛ بعيدًا عن تجاهل المشكلة برمتها وتجاهل زيادة العبء على أجهزة الدولة وتوربينات توليد الكهرباء داخل محطات التشغيل؛ والتى تحتاج إلى المزيد من «الفحم» و«الغاز» و«المواد البترولية» اللازمة لعملية توليد الطاقة الكهربائية. فلا أحد بالتأكيد يرضيه هذا الاستهلاك المفرط للكهرباء، مابين أجهزة تكييف متعددة داخل المنزل، ناهيك عن جرائم لصوص الكهرباء من أعمدة الإنارة فى شوارع المحروسة، ويستخدمها الباعة الجائلون عينى عينك دون وازع من ضمير ولا أخلاق، هذا بخلاف المحال التى تبيع كل شىء حتى الثالثة فجرًا.. حتىلو كان يبيع لامؤاخذة أحذية ! فمن ذا الذى سيذهب لشراء حذاء بعد منتصف الليل؟

من هنا يجب تقنين مواعيد الإغلاق لتلك المحال التى تستهلك الطاقة ليلاً ونهارًا؛ وتتفنن فى تبديدها بكل الوسائل المتاحة. فكان من الضرورى تعريف المواطنين بثقافة الترشيد وفوائده، وهو ضرورة حتمية فى ظل الزيادة فى الاستهلاك المترتب طبيعياُ عن الزيادة السكانية، لتقليل الأحمال الزائدة التى تؤدى إلى الانقطاع المستمر للتيار الكهربائى خاصة فى فصل الصيف، بالإضافة إلى التنبيه على ضرورة اتباع الإرشادات فى كيفية استخدام الإنارة والأجهزة الكهربائية، الأمر الذى سيعود بالتأكيد بالنفع على المواطن والدولة وأجهزتها التنفيذية. وأما عن الاعتقاد بأن مجرد استبدال لمبات الإضاء العادية بأخرى «موفرة» يحل جزءًا كبيراً من المشكلة، فما هو إلا حل مؤقت يحتاج إلى دراسة من المسئولين يقدمونها لخدمة كل القطاعات والمساهمة فى رفع درجات الوعي، عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ووضعها ضمن مناهج التعليم فى كل المراحل التعليمية، ليصبح سلوك الترشيد سلوكًا تلقائيًا لايحتاج إلى توعية مستمرة.ولتبدأ الأجهزة التنفيذية فى إعطاء المثال الذى يجب أن يُحتذى فى الترشيد، فنحن نرى قمة التبديد للطاقة؛ متمثلة فى أعمدة الإنارة المضاءة فى الشوارع نهارًا جهارًا، وكذا الإعلانات المضيئة دون أن يلتفت إليها أحد!

وحتى لانظلم الرجل الذى يحتضر وينادى أهل بيته مناشدًا إياهم إطفاء الأنوار الموجودة بلا مبرر، تعالوا بنا نتعرف إلى ماهية الطاقة؛ فالطاقة هى القادرة على القيام بإحداث التغييرات المجتمعية المهمة فى ظل عصر التكنولوجيا؛ وهى أحد المقومات الرئيسة للمجتمعات المتحضرة لتسيير الحياة على أكمل وجه، واستخدامها لتحريك وسائل النقل وتشغيل الأدوات المنزلية، فالوسائل التى نستخدمها تشبه تمامًا لحركة الإنسان الذى يحتاج إلى «الطاقة الغذائية» التى تحترق فى خلايا الجسم وتحوله من الثبات إلى الحركة فى الحياة ومناحيها المختلفة.. فمابالنا لو انقطعت هذه الطاقة عن الجسد الإنساني؟ ستتوقف الحياة.. سيتوقف نبض القلب.. ويموت ! وهكذا المجتمع الذى يحتاج بصفة مستمرة إلى توفير الطاقة عن قناعة ورضا وثقافة تسكن العقل والوجدان.

فها نحن ندعو إلى ضرورة استجابة المواطنين لنداءات الترشيد، فما رأيناه من إنارة مئات اللمبات المزينة لمحلات الجزارة والحلويات طوال الشهر الفضيل يثبت أن الدولة فى واد وسلوك المواطنين غير العابئين فى وادٍ آخر، ناهيك عن زينات الأفراح والمناسبات بعيداً عن إهدار الطاقة فى البيوت.. الآن ندق ناقوس الخطر من تبعات تجاهل الالتزام بمنهج ترشيدي؛ فيجب أن تتوقف هذه الفوضى الاستهلاكية بلا رقابة مشددة ومفترضة من أجهزة الحكم المحلى فى شتى المحافظات، حتى لانعود إلى التخبط فى الظلام حين تقع الواقعة، وتصاب كل محطات توليد الكهرباء بالشلل التام، لنعود إلى الحسرة والندم، ولنمنح فرصة للشامتين المتربصين للقيل والقال والهجوم اللاواعى على منظومة الدولة، ونتجاهل أننا بسلوكياتنا المعيبة؛ سنكون السبب الرئيس فى العودة إلى الظلام الدامس المتكرر كما حدث منذ عهد قريب.

■ أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون