رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الدفاع الجوى.. كانت لنا أيام


نعم كنت كغيرى جندياً فى الجيش المصرى أنتمى لتلك المؤسسة العظيمة ولا أقبل أن يطلق عليَّ أحد كلمة «عسكر» فما كان أحدنا من المماليك أو تم استئجاره للدفاع عن مصر، وكم كنت ـ وكل من كانوا معى وقتها ـ فخوراً حتى النخاع بالأيام التى قضيتها فيه

4120.png

منى رجب

دخلت الجيش عدة مرات وليس مرة واحدة، المرة الأولى حينما كنت طفلاً صغيراً أجرى أنا ورفاقى خلف طابور الصاعقة الذى كان يؤدى تدريباته فى «أنشاص البساتين» وكنت أنا ومن معى من الصغار نتخيل أننا جنود مصر مثل هؤلاء الكبار الذين يتدربون بجدية، ثم بعد أن نلهث من التعب ننفرد بأنفسنا لنلعب لعبة «الجيوش المتحاربة» حيث نتخيل أننا نخوض غمار حرب حامية الوطيس ضد إسرائيل.

ثم دخلت إلى الحياة العسكرية عام 1973!! كنت وقتها فى الصف الأول الثانوى، وحينما قامت حرب أكتوبر تحولت مدرستى الثانوية إلى مدرسة ثانوى عسكرى، نرتدى الثياب العسكرية ونجرى تدريبات يومية وكان أحد ضباط الجيش برتبة نقيب يقوم بتدريبنا، وتحولت التربية العسكرية إلى مادة دراسية ثم إلى أسلوب حياة طبع حياتنا وقتها بقدر من الجدية فضلاً عن أنها ساعدت فى تنمية روحنا الوطنية، وفى جامعة عين شمس كانت لنا أيام، حيث كانت مادة العسكرية مادة دراسية لجميع الطلاب الجامعيين، ولم يكن يسمح لأحد باجتياز العام الدراسى دون أن يكون قد نال دورته التدريبية العسكرية، وكان ضابط الجيش الذى يدربنا عسكرياً برتبة مقدم، وكانت دروسه التى يلقيها علينا قبل التدريبات تدور حول عقيدة الجيش الوطنية التى درج عليها منذ آلاف السنين، وكانت هذه أول مرة أسمع فيها هذا التعبير «العقيدة الوطنية».

وما إن جاء أول عام 1981 حتى لبيت داعى الوطن، وكان أن تم تجنيدى بالجيش المصرى جندى مجند يستعد فى أى لحظة أن يهب روحه فداء للوطن، فمصر التى شاهدتها تلملم جراحها من نكبة 1967 هى نفسها مصر التى شاهدتها تغسل جراحها بماء القناة المقدس عام 1973، كان ذلك الجندى المجهول الذى رفع العلم كأنه مصر كلها، كأنه أنا أو أبى أو أخي، وإذ قمت عام 1981 بالدخول إلى معسكر تدريب الدفاع الجوى فى منطقة كينج مريوط جالت بذاكرتى أبيات من قصيدة الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور فأخذت أترنم بأبيات منها: «تمليناك حين أهلَّ فوق الشاشة البيضاء.. وجهك يلثم العلما» وكانت الروح الوطنية الخالصة هى التى توجه المعسكر كله، وكانت هى التى تذوب فيها كل الخلافات التى تطرأ أحيانا بين المستجدين والقدامى، وهناك فى معسكر التدريب لم يكن هناك فارق بين أصحاب المؤهلات العليا وغيرهم، كلنا فى المعسكر واحد، وكلنا فى الوطن واحد، حتى الفروق العقائدية لم نكن نلقى لها بالاً.

وكنا كثيراً ما نستحضر صورة الجندى «إسماعيل ياسين فى الجيش» عندما يقع أحدنا فى خطأ ساذج فنظل نضحك من سذاجته ونقيسها بما كان يحدث من إسماعيل ياسين وقت ضرب النار أو حينما ركب الموتوسيكل فانفلتت منه الفرامل، فنستمر فى الضحك وقلوبنا لا تحمل للدنيا هماً.

وعند عودتنا من معسكر التدريب وضع السائق شريط أوبريت الليلة الكبيرة فى كاسيت السيارة لنظل أنا والجندى أحمد إبراهيم حلمى المهندس الكبير فيما بعد ـ نغنى هذه الأغنية لمدة ست ساعات متواصلة بسبب العطل المتكرر للسيارة ـ وفى الهايكستب حيث اللواء 93 دفاع جوى كانت أيام تجنيدي، تعلمت فيها الكثير والكثير من الصول إبراهيم، والنقيب هانى، والمقدم أحمد حسن والمقدم هاشم، وكان قد سبقنى إلى اللواء 93 الجندى «رمسيس رؤوف النجار» الذى هو الآن أحد كبار المحامين بمصر، وكنا نقضى أياماً لا نفترق فيها لا يجمعنا إلا هم الوطن، رمسيس يدافع عن مصر وأنا معه أدافع عن مصر لا فضل لى عليه بل كان هو صاحب الفضل عليَّ فى مواقف كثيرة ساندنى فيها وشد من أزرى حينما كانت عظامى طرية فى بداية التجنيد، ثم كان أن وقعت الواقعة وتم اغتيال الرئيس السادات فى السادس من أكتوبر.

من بعد اغتيال السادات قضينا شهوراً فى منتهى الجدية والانتباه، وفيها رأيت المعدن المصرى الأصيل، معدن هؤلاء الجنود البسطاء الذى يحبون مصر ولا يرون غيرها ويتدافعون لحمايتها دون أن يأبه أحدهم للخطر، وكانت الساعات الليلية التى كنا نقضيها فى خدمة الحراسة «برينجى وكينجى وشينجى» من أمتع الأيام حيث كنا نتفنن فيها فى إيقاف أى مارٍ داخل المعسكر بصرخة حادة : إثبت محلك، ثم نسأله عن كلمة سر الليل، ويا ويله من ساء حظه فنسى كلمة السر، ساعتها ينال منا الويل والثبور إلى أن تتضح شخصيته فنستبين أمره، أما من كان يتم ضبطه متهاوناً أو نائماً أثناء نوبة الحراسة على مخزن السلاح والذخيرة أو بوابة المعسكر أو أى موقع آخر فالعقوبات المغلظة فى انتظاره،إلا أن هذه الأيام ـ مع مشقتهاـ أشعرتنا بالمسئولية وزادت من قدرتنا على المثابرة، حيث اخشوشنا فيها بعد أن كانت حياتنا ناعمة، واشتد عودنا بعد أن كان قد تعوَّد على الدعة واللين، وتدربنا أثناء فترة تجنيدنا على استخدام الأسلحة فاكتسبنا خبرات حياتية لم نكن لنصل إليها لولا أن كنا جنوداً.م كنت كغيرى جندياً فى الجيش المصرى أنتمى لتلك المؤسسة العظيمة ولا أقبل أن يطلق عليَّ أحد كلمة «عسكر» فما كان أحدنا من المماليك أو تم استئجاره للدفاع عن مصر، وكم كنت ـ وكل من كانوا معى وقتها ـ فخوراً حتى النخاع بالأيام التى قضيتها فيه، إذ بدخولى إليه اكتملت مشاعرى الوطنية، وزاد إحساسى بمصريتى، فى الجيش رأيت مصر كلها وأدركت لماذا كان الوطنهو عقيدة الجيش، فأول شىء تعلمته حين وقفت فى أول طابور فى اللواء 93 دفاع جوى هو صيحة قالها المقدم أحمد حسن لنا: كل واحد فيكم مسئول عن مصر، مصر وبس.

وبذلك كان الجيش هو أحد أهم العوامل التى أسهمت فى زرع الانتماء فى قلوبنا، وويل لمن لم يكن لديه انتماء لوطنه، فمن لم يكن لديه انتماء ضاعت بوصلته فى الحياة.