رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كارليتو.. الموت بالتفاصيل


عام 1958 قام العراق بثورة على النظام الملكي، وابتهج بها جمال عبد الناصر فطلب من المسئولين عن الإذاعة مخاطبة أم كلثوم لتشدو بأغنية تهنئة لشعب العراق، وكتب الشاعر محمود حسن إسماعيل قصيدة «بغداد ياقلعة الأسود» وذهب بها المسئولون لأم كلثوم فأصرت أن يلحنها رياض السنباطى وكان وقتها على خلاف معها، لهذا أضافت «لكن لا تبلغوه أننى أنا من سيغنى الأغنية». بالفعل لحن السنباطى القصيدة على أنها لمطربة عربية وحينما استلم مدير الاذاعة اللحن صارحه بأنه لأم كلثوم فقال له السنباطى: «طيب خذ ورقك واتكل على الله».

وأصبح المشروع مهدداً بالتوقف، فخاطب المسئول مكتب عبدالناصر، وفى اليوم التالى فوجيء السنباطى بهاتف وعلى الطرف الآخر جمال عبدالناصر يرجوه أن يسمح لأم كلثوم بغناء اللحن. لم يعترض السنباطى لكنه رجا عبدالناصر «حاضر ياريس، بس ما تخليهاش لاتسلم على ولا تكلمنى»! ما يهمنى هنا إدراك عبدالناصر لأهمية حشد كل التفاصيل فى سبيل مشروعه، هكذا كان محمد على بانى نهضة مصر يكتب خطابات للمبعوثين فى الخارج ويسألهم بدقة عن مقدار ما حققوه من نجاح فى كل مادة يدرسونها. التفاصيل تقوم بالدور الحاسم فى تاريخ الزعماء والبسطاء. فى الفيلم الجميل «طريق كارليتو» (1993) بطولة آل باتشينو، إخراج بريان دى بالما، نرى رجل عصابات يخرج من السجن بعد خمس سنوات، معتزما أن يبدأ حياة جديدة بعيدا عن الجريمة، لكنه يتورط بالمصادفة فى شئون العصابات فيصبح هدفا وطريدة.

ومع ذلك فإنه ينجو من كل مصائد الموت حتى لا يعود يفصل بينه وبين النجاة سوى خطوة واحدة أمام سلم القطار، يرتقيه وينطلق إلى حياته الجديدة التى أرادها، لكن التفاصيل التى بدت له عديمة القيمة تبرز فى هذه اللحظة وتقتله! لقد قام بكل شىء على الوجه الأكمل، ونجا من القوى الكبرى لكنه لم ينتبه إلى التفاصيل الصغيرة جدا. فقد حدث أن آل باتشينو تشاجر قبل ذلك بشكل عابر مع مجرم شاب فأهان الشاب وحقره وطرده من الكباريه، وفى اللحظة الأخيرة عند سلم القطار يفاجأ آل باتشينو بذلك المجرم يذكره بنفسه مبتسما قبل أن يسدد إليه طعنة الموت.

لقد خطط لكل شيء ونجح فى كل شيء، لكنه لم يتصور أن تفاصيل إهانة عابرة هى التى ستحدد مصيره. ليس رجال العصابات الأقوياء، ولا وابل الرصاص، ولا التفجيرات، لكن قتلته التفاصيل الصغيرة التى لا ننتبه إليها. الفيلم مأخوذ عن قصة «بعد ساعات» للكاتب «إدوين توريس»، عمل سينمائى رائع، كان يمكن أن يسقط فى نطاق أفلام العصابات الاعتيادية لولا عبقرية التوقف عند فكرة الموت بالتفاصيل. ولا أظن أن هناك زعيما بارزا فى التاريخ السياسى أهمل التفاصيل، لأنه كما يقول المثل الإنجليزى «فى التفاصيل يكمن الشيطان» أى لب الموضوع.

وقد التقيت بمناضلين عظماء كانوا لايقرءون من الوضع السياسى سوى خطوطه العامة الصحيحة، وبآخرين كانوا لا يشاهدون إلا التفاصيل،أما الذين نجحوا فى ترك بصمة فهم من جمع التفاصيل الصغيرة إلى الخطوط العامة فى وجه واحد كل ارتجافة فيه بأهمية كل ملمح. وليس عبثاً فى الأدب والفن أن يقال: «الفن هو التفاصيل»، ولا عبثا أن يقول الكاتب الروسى تشيخوف: «إذا لم تلمس التقدم فى التفاصيل الصغيرة فلا جدوى من البحث عنه فى الأشياء الكبيرة». إنها التفاصيل التى نهملها ثم نفاجأ بها قبل خطوة واحدة من حياة جديدة.

■ أديب