رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بر الأمان..البرلمان الصغير


إن استقاء المعلومات للنشء والأجيال الصاعدة، لابد أن يكون من المصادر الموثقة فى مادة «التربية الوطنية-القومية»، ويكون تقييم درجاتها مؤثرًا على درجات النجاح والرسوب فى المجموع الكلي، بحيث لا تكون مادة هامشية وشكلية داخل مناهج التعليم فى كل المراحل الدراسية.

علمتنا التجارب أن ثوابت الولاء والانتماء تبدأ منذ إرهاصات الطفولة، وليس الولاء والانتماء للأسرة التى ننشأ بين أحضانها منذ نعومة أظفارنا فقط، ولكن الأهم هو اكتساب هذه المزية السامية للولاء للوطن، وحتى يصبح الإحساس بهذا الكيان العظيم منذ لحظة استنشاق هواء الحياة بكل جمالها ونقائها، وليكون الطفل منذ مراحل عمره الأولى «لبنة» صالحة وفاعلة فى بنيان المجتمع.

ولكى نصل إلى وجود هذا النموذج المثالى أو الأقرب إلى المثالية ـ فنحن فى حاجة ماسة إلى ابتكار طرق جديدة للتربية السياسية الراشدة، التى تبدأ من القناعة والإيمان المطلق بحق الآخر فى الحياة ، وعدم فرض الوصايا على الأفكار والمعتقدات، طالما كانت هذه الأفكار هدفها وغايتها صالح الوطن، واحترام مفاهيم العقل الجمعى البناءة، التى تصبو إلى خدمة قيم الحق والخير والجمال والحرية والديمقراطية الحقيقية. ولعلنا نتذكر ماكان يعرض على الشاشة الفضية من برامج تثقيفية توعوية للمفاهيم السياسية وكيفية ممارستها على الوجه الأمثل، وأشهرها برنامج «البرلمان الصغير»، وكيف كانت تدار حلقات النقاش بشكل منظم حول الموضوعات المثارة، سواء كانت موضوعات اجتماعية أو سياسية، لتدريب النشء على أدب الحوار وممارسة حق القبول أو المعارضة المهذبة الواعية، وكانت الأسرة المصرية تلتف حول هذا البرنامج، بل كنا نعتبر اسمه «بر الأمان» وليس «برلمان»، لما فيه من عبور بالأفكار والتعبير عنها بكل الطرق السوية المتحضرة، التى تضمن لنا أن تفرز الكوادر التى ستضطلع بمهام إدارة تشكيل مستقبل الوطن، وتعرف قدره ومقدراته.

ولعلى أذكِّر الأجيال التى لم تشاهد هذا البرنامج الجميل، فقد كان الهدف منه هو تعزيز مبدأ المشاركة الفعالة فى التعبير عن آرائهم، بدءًا من القضايا المدرسية وتزيين حجرات الدرس وإبداء الرأى فى طرق التدريس، والمشاركة فى وضع برامج الرحلات المدرسية، وصولاً إلى بقية قضايا المجتمع التى يعتبرونها من قضايا الساعة، وكان هذا يتم من خلال المناظرات التربوية بين برلمانات المدارس، وتحت إشراف الأساتذة ومندوبى وزارة التربية والتعليم، حيث تقام المسابقات ذات الجوائر كل أسبوع فى مختلف محافظات الجمهورية، لتشجيع الطلبة على التعبير العلنى عن كل الآراء والأفكار التى تراود خيالاتهم وطموحاتهم، وتفعيل مقترحاتهم الإيجابية ووضعها حيز التنفيذ، وكان كل مشارك من هؤلاء يتخيل نفسه نائبًا برلمانيًا عن دائرته، ويعتلى المنصة فى جلالٍ ووقار، وكأنه داخل قاعة البرلمان الحقيقية، للتدريب العملى على لحظات المواجهة، وكان الحوار والمناقشات يتمان باللغة العربية الفصحى الرصينة وأدوات الحوار المهذبة، وهذا يؤدى إلى تنمية واتقاد جذوة القدرات الذهنية والفكرية باستمرار، ويزيد من تعزيز روابط الزمالة المدرسية وتقوية وشائجها، والعمل على السيطرة والتحكم الذاتى، والبعد عن المشاعر الطفولية الساذجة السلبية المرتبطة بطبيعة المرحلة العمرية، والتعود على ألا يكون أنانيًا، ويسلِّم عن قناعة بأن مصالحه لابد أن تكون مرتبطة بمصالح من يتواصل معهم عبر رحلة الحياة، سواء المرحلة المدرسية ثم الجامعية، وصولاً إلى مرحلة ممارسة الحياة العملية، وعدم تغليب مصلحته الشخصية على مصالح الآخرين.

ومما لاشك فيه أن هذه التربية السياسية الممنهجة والممزوجة بحب الوطن وقيمه العليا، سوف تكون بمثابة طوق النجاة الذى ينقذه من الوقوع فى براثن التيارات المناهضة والمعادية للوطن، وهنا يبرز دور الأسرة وعلماء الاجتماع والتربية، من أجل تعزيز الانتماء والولاء للوطن وغرس المفاهيم الإيجابية فى عقولهم فى وقت مبكر، ولن يتأتى هذا إلا بوجود «الأب القدوة»، و«الأم القدوة»، و«المُعلم القدوة»: شكلاً ومضمونًا، إلى جانب البرامج المماثلة للبرلمان الصغير، حتى لا يواجه الطفل بحالة من حالات الانفصام بين الأقوال والأفعال، فيكون الاضطراب فى السلوك والتوجهات والمعتقدات، وانعكاس كل هذا على السلوكيات السلبية التى سيقوم بممارستها فى الحياة العامة بين أقرانه وبين أفراد المجتمع.

ولكن كيف السبيل إلى إيجاد هذا الجيل الواعى من جديد؟

إن استقاء المعلومات للنشء والأجيال الصاعدة، لابد أن تكون من المصادر الموثقة فى مادة «التربية الوطنية-القومية»، ويكون تقييم درجاتها مؤثرًا على درجات النجاح والرسوب فى المجموع الكلي، بحيث لا تكون مادة هامشية وشكلية داخل مناهج التعليم فى كل المراحل الدراسية، ويقوم على تدريسها أساتذة يعلمون الطلاب مفاهيم حقوق الإنسان الحقيقية، وتعريفه بما عليه من واجبات حتمية وإنسانية تجاه مجتمعه، ولابد من الإعادة الجادة والفورية لمادة «التربية العسكرية»: نظريُا وعملياً ـ بكل مفاهيم الضبط والربط والالتزام السلوكى الجاد ـ إلى مراحل الدراسة الإعدادية والثانوية، حيث كان للمظهر العام للطلاب بالملابس الموحدة أكبر الأثر فى تعميق الانتماء والإحساس بأن الكل فى واحد، ولا سبيل إلى التفرقة بين غنى وفقير، والجميع تحت مظلة الوطنسواسية.

بهذه العودة الحميدة إلى ماكان عليه المجتمع المصرى الأصيل، والتشبث بكل العادات والتقاليد الضاربة فى عمق التاريخ، نستطيع أن نحافظ على نقاء جذوره من عطن الأفكار الدخيلة عليه، لنؤكد المقولة الحقيقية الخالدة عن تربية النشء والأجيال الصاعدة بأن «العلم فى الصِّغر.. كالنقش على الحجر»!! ونحن فى انتظار السباحة إلى «بر الأمان»!

 أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون