رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نصوص.. وراء النصوص


من سوفوكليس إلى شكسبير وإلى إبسن، كانت الشخصيات تعبر عن نفسها على منصة المسرح بلغة واضحة ومباشرة أكثر مما يحدث فعليا فى الحياة اليومية فقط عند الروسى العظيم أنطون تشيخوف ظهرت تقنية الحوار التى يشير فيها النص المنطوق إلى ما هو أعمق مما تعارفت عليه الكلمات، وأحياناً إلى عكس ما تشير إليه الكلمات، فأصبح هناك ما يسمى «النص التحتى» حيث لم تعد اللغة تتجسد فى الحديث المنطوق فحسب بل وفى لحظات الصمت والسكون، وفيما تخفيه الشخصيات من دوافع وأسباب لا تعلن عنها. فيما بعد لفت الكاتب المسرحى الإنجليزى هارولد بنتر الانتباه إلى أن اللغة لم تعد تستخدم من أجل التواصل إلا نادراً، وبعبارة أخرى، فإن البشر لا يقولون ما يعنون، وأن هناك دائما نصا آخر وراء كلماتهم، على المتلقى أن يستشفه من صميم الوقائع والمواقف والنبرة، وليس من منطوق الألفاظ. وقد شكل مسرح السياسة الدولية، والمحلية، وبيانات الزعماء وتاريخ الدول، والاتفاقيات، المجال الأعظم لوجود النص الآخر وراء كل النصوص المنطوقة. وفى وقت من الأوقات كان الاستعمار البريطانى يعلن أن وجوده فى فلسطين «انتداب»، وأن ثكناته العسكرية وأرتال دباباته فى دول أخرى «حماية» تهدف إلى «الارتقاء بالشعوب ونشر الحضارة»، وفى الواقع كانت هناك نصوص أخرى بالحبر السرى وراء تلك التصريحات، قد نقرأها فقط على وهج النار. ومازال النص التحتى للتعبير الأمريكى الشهير «الغموض البناء» «constructive ambiguity» الذى استخدم خلال مفاوضات فلسطينية إسرائيلية ينشع حتى الآن بالدماء. وخلال الحرب العالمية الثانية صكت أمريكا على لسان الرئيس روزفلت تعبيرها «محور الأعداء» إشارة إلى ألمانيا وإيطاليا واليابان، واتضح لاحقا أن النص التحتى لذلك المصطلح الذى يبدو محايدا يتضمن إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكى من دون أى مبرر عسكرى أو حربى. وقبل أن يتبدد دخان الحرب العالمية ظهر «مبدأ ترومان» الذى أعلنه الرئيس ترومان فى مارس 1947 وكان النص المنطوق له «مساعدة الشعوب التى تهددها الشيوعية» والنص التحتى الآخر، الفعلى، هو: «تعبئة العالم فى حرب باردة ضد التجربة الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى»، واستنزاف موارد الشعوب فى تلك الحرب.

وتقدم الرئيس الأمريكى داويت إيزنهاور لمواجهة حركات التحرر الوطنى فى الخمسينيات بنص تحت عنوان نظرية «ملء الفراغ فى الشرق الأوسط»، ووراء ذلك النص البديع لفظا كان ثمة نص آخر حقيقى هو التقدم الأمريكى لشغل المواقع التى تركها انحسار الاستعمار القديم البريطانى الفرنسي. أما النص الأكثر جمالاً وشيوعاً لدى الغرب فهو النص الأمريكى القائل بدعم ونشر الحرية والديمقراطية فى العالم، لكن التجارب المحددة أظهرت النص الآخر التحتى لتلك العبارات على الأقل مرة عام 1970 حين وصل سلفادور الليندى إلى الحكم فى تشيلى بانتخابات حرة فصرح هنرى كيسنجر فى يونيو من نفس العام بقوله: «إننى لا أفهم كيف ينبغى علينا أن نقف مكتوفى الأيدى وأن نراقب بسلبية بلداً يصبح شيوعياً لمجرد أن شعبه لا يبدى المسئولية الكافية»! إن السياسة الدولية، والمحلية، والاتفاقيات، والمعاهدات، تبلور مواقفها فى نصوص تخفى وراءها نصوصا أخرى، وحينما نمعن النظر فيما نجده أمامنا، فإن علينا أيضا أن نقرأ ذلك النص الآخر، التحتي، والذى يكتب عادة بحبر سرى.

 كاتب وأديب