رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قمح وذرة وعباد الشمس

جريدة الدستور

رقم ٢٠١٠، ينادى عامل «البوفيه» على صاحب الدور، ينقض على الشباك، يضربها بكلمات مدببة تعرب عن صمته وصبره الذى طال، تستمر فى الصمت، يلين، يبدأ فى الشكوى، تحل مشكلته بجرة قلم حمراء معتمدة بختم نسر عجوز مكسور الجناح مأكول الرأس مفقود منه الدائرة الخارجية المحيطة به فتعرى على الورق. 

كانت الدنيا «بمبى»، الآن هى أرجوانية ككدمة، ينصرف عامل البوفيه؛ ليلبى نداء الزبائن.

تنادى ٢٠١١ لا أحد يجيب، تنادى بصوت ضعيف ٢٠١١ ولا مجيب، ينهال الجمع عليها يصرخون.. يقفزون فوق بعضهم.. يسبون بطأها وسلبيتها فى تنظيم الطابور، ويسبون الحكومة، تتوقف عن النداء، تستغيث ٢٠١٢، يتقدم أحدهم مزاحمًا الجمع يحاول الوصول إليها، يعانى.. يصل محشورًا منهكًا بين المتربصين بموقعه أمامها، يعرض مشكلته، تستمع، يعاتبها وكأنها السبب، تفحص أوراقه ومعطياته، تحاول أن تعطيه فرصة فى استكمال أوراقه حتى ينال تأشيرتها الحمراء وختمها المكسور، يستبطئها الناس، تتعالى الصيحات، فتنادى ٢٠١٣، وتشير لـ٢٠١٢ بالبقاء حتى ينتهى من تجهيز أوراقه، ينجز ٢٠١٣ مهمته سريعًا، يستحسنه الناس؛ فينسحب ٢٠١٢ حتى يستجمع ملفه ولا يعود، يعود عامل البوفيه للتنظيم فينادى ٢٠١٤-٢٠١٥- ٢٠١٦. 

كلهم متشابهون ولدوا من رحم متذمر واحد ولم يفطموا من السخط، تشير للعامل فيفهم، ينسحب من بين الحشد ويعود حاملًا كوبًا من الليمون يمرره بمهارة فوق رءوس الواقفين، ترتشف منه دون أن تتوقف عن العمل، يصرخ أحدهم: «خلصينا يا مدام عفاف»، يغمز العامل راسمًا صرامة مزيفة: آنسة عفاف.

تشرئب الأعناق لتتفحص يديها، تنتبه لكرمشة الجلد فوقها كورق القصدير، كل ما كانت تعرفه عن الكرمشة هو اعتراضها على فستانها الذى خاطته لها أمها فقد كانت تريده مكرمشًا منفوشًا كفساتين «السندريلا» أما الآن فإنها تكتسيه جلدًا فوق لحمها.

هل أخذ رأيها أحد فى تمديد سن التقاعد خمس سنوات طوال؟

٢٠١٧ 

انتبهت من غفلتها على صوته الجهورى: تجلسين فى التكييف، وتشربين الليمون، ونحن ننتظر فى الجرْن!

كم كرهت هذا التكييف والتطوير كله الذى طال المصلحة، تفتقد مكتبها الصغير فى الركن بجوار الشباك المطل على فيلا من طابقين، تفتقد العجوز الأجنبية التى تسكنها وكانت تستمتع بمراقبتها وهى ترعى زهور دوار الشمس التى تملأ شرفتها الواسعة، فكرت مرة أن تقلدها، فزرعت دوار شمس وقمحًا وذرة فى شرفتها الواسعة التى تشعر بالاكتفاء وهى تجلس فيها، لكن بمجرد أن بدأت ترى نتاج تعبها هاجمتها الفئران وقضت على اكتفائها.

أصدرت الوزارة قرارها بتوحيد شكل المكاتب والأماكن، واهتم المهندسون جدًا بالشكل الهندسى للمكاتب وشبابيك التعامل مع الجمهور والمكيفات، ونسوها، فبعد أن كانت ترى الشمس كل يوم لمدة ثلاثين عامًا ستقضى الثمانية الباقية لها فى عمر الوظيفة محرومة منها، فهى تطل على صالة كبيرة مغلقة وتعطى ظهرها للنوافذ المغلقة حفاظًا على التكييف، وتواجه جمهورًا ساخطًا يكرهها ويكره نفسه وروتين حياته. 

كما نسوا نسرها العجوز الذى ينال من السباب والسخرية مثلما تنال. 

٢٠١٨ 

يصرخ الجمهور ويتجادل بلا توقف معها ومع بعضهم ومع العامل وفى الهواتف.. تبصم الأوراق بالختم.

تسأل نفسها: من يمكنه أن يختم أوراقها بختم مرفوع الرأس مفرود الجناحين، من يحمل قلمًا أحمر يعيد لها حياتها المسلوبة فى دوامة السخط والروتين، كانت تتمنى تجربة إجازة من الإجازات التى تخرج لها لسانها فى القانون، إجازة رعاية الأسرة، رفضتها المصلحة بحجة أن لها إخوة أكبر منها، وهم أحق برعاية أمها المريضة، هل تعرف المصلحة أن إخوتها لا يزورون أمهم إلا وقت قبض معاشها؛ حتى ينالوا بعضًا منه. 

ماتت أمها قبل أن تراها بفستانها الأبيض، كما حلمت، ودعت، وترجّت، وسعت. 

استبشرت خيرًا بخطيبها الذى يعمل بالخارج، سألت عن إجراءات إجازة مرافقة الزوج، فانصرف الخطيب وبقيت هى بلا رفقة.

إجازة رعاية الطفل لا تنالها من تكفل طفلًا مثلما تفعل هى.

ضجيج لا يتوقف.

٢٠١٩

يسعل فى وجهها دون اعتذار، يفسد كوب الليمون. 

٢٠٢٠ 

تشير ساعتها إلى الثانية إلا الربع، تقف لأول مرة منذ الثامنة والنصف، يصرخ الحشد.. 

يسود الهرج فى الصالة الواسعة.. تغلق شباكها، تحقب أغراضها، يعشش نسرها فى خزانتها.. 

يحاولون منعها من الخروج.. يتدخل أفراد الأمن معلنين انتهاء الدوام.

فى الصباح تدخل فلا تجد إلا عامل البوفيه، وعمال النظافة، تتساءل: أين الجميع؟ يتبادلون النظرات، فيجيب العامل: أعلنت الحكومة أن المصلحة فى إجازة إلى أجل غير مسمى؛ لتفشى فيروس كورونا، ألم تسمعى الأخبار..؟!

قالت: أنام فى الثامنة.

ارتمت على الكرسى المجاور للبوابة وارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة.. أخيرًا تفشى الهدوء.