رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أثر الفراشة

محمد رفيع
محمد رفيع

وقفت حافلة بجانب الشجرة فى إشارة المرور، وفراشة على الغصن فتحت جناحيها للهواء والشمس، فانتبه طفل ناعس على كتف أمه، ورأى ألوانها الزاهية، فتفتحت لديه حواس خفية، وأحب الألوان المختلفة، وتعلقت عيناه بالفراشة حتى سار الباص بعيدًا عنها، بحث بعينيه عن ألوان أخرى، فلم يجد إلا رجلًا عابسًا يُشبه أباه، يجلس فى المقعد المجاور، لم يكن الطفل يعرف معنى للعبوس، لكنه شعر بأن ذلك غير حسن. حاول تغيير ذلك فانفرجت أساريره، وأصدر صوتًا لعوبًا كى يلفت الانتباه. نظر الرجل وفى عينيه حزن معقود للطفل الباسم، رآه طازجًا، وكأن الله صنعه الآن، فغالبت البسمة داخله، لكن طاقة روحية انسابت بينهما، أسعدته فى نهاية اللحظة. أدار مع الصبى حوارًا طويلًا لا مفردات فيه، غير الابتسام والعيون الصامتة. بعدها انتزع الرجل نفسه بصعوبة من موجات السعادة التى سرت فى عرقه، ونزل فى محطة نحو جهة لا أعلمها، بينما أكمل الباص طريقه. غير أن حلاوة فى روح الطفل تشكّلت، لأنه نجح فى أن يجعل من شبيه أبيه مبتسمًا، فصار أكثر شبهًا بأبيه الذى فى البيت. وفى الشارع البعيد سرت فى روح الرجل طمأنينة خفية؛ تسربت إليه من طفل برىء مبتسم، فبدأ الهم الذى اعتراه فى الذوبان. أكمل الباص طريقه المنحنى طويلًا طويلًا، حتى صار الطفل شابًا معافى. وصار الرجل كهلًا كبيرًا، لا أعرف عنه إلا أن الهم زاره ثانية فى سنواته الأخيرة، حين قرر ولده الوحيد أن يهاجر بعيدًا عنه، وربما مات بعدها بأعوام قليلة؛ لست أدرى.

أما الشاب الذى رأى الفراشة من شباك الباص، فنمت فى روحه رغبة فى إضحاك الناس. لست أدرى كيف يتذكر حتى الآن؛ حلاوة الروح التى داخلته حين أضحك الرجل؟ كيف استطاع أن يكوّن من أصدقائه فرقة تمتهن المونولوج الكوميدى الحديث؟ لا أعلم. هل كل واحد من أعضاء الفرقة وقف به الباص فى إشارة المرور؟ أم لم يكن فى طفولتهم جميعًا أى دور للفراشات؟ لا يهم. المهم هنا هو ذلك اليوم الذى طافت فيه فرقة الإضحاك المدن، وسافرت للجاليات العربية فى بلاد بعيدة. وذهبوا لحديقة عامة فى ظهيرة ما، كى يؤدوا دورهم فى نشر البهجة بين الناس. نعم بالضبط وكما توقعت أنت، كان أحفاد رجل الباص هناك مع أمهم وأبيهم يضحكون، لم يكن فى ذلك أى صدفة، فالصدفة تقتضى أن يعلم كل الأطراف باللعبة، وفى حكايتنا هذه لا أحد يعلم كيف تناسجت الخيوط والاحتمالات حتى جاء يوم كهذا. فلا رجل الباص تذكر الطفل الضاحك مرة أخرى، ولا ابنه الذى هاجر يعرف حكاية الفراشة، ولا الطفل الذى صار فتى الكوميديا يتذكر أنه أضحك رجلًا عبوسًا، فقط ليصير أكثر شبهًا بأبيه. ولا حتى الفراشات التى تملأ الحديقة هنا، هى من نسل تلك الفراشة التى غازلت عينى الطفل هناك، لا صدفة هنا يا صديقى، لا أحد يعرف ما حدث إلا أنا وأنت فقط. فهل نسمى ذلك نوعًا من سلاسل الكون الخفية؟ سديم الاحتمالات النقية، أم نسميه أثر الفراشة فى نشر البهجة فى بلاد قصية، لا أعلم.