رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فتش عن التعصب «1-3»


بعد أن احتفل العروسان رفيق سامى وعروسه مارسيل الأسبوع الماضى بحفل زفافهما بإحدى الكنائس التابعة للطائفة الإنجيلية بقرية اتليدم بأبى قرقاص بالمنيا، وذهبا إلى بيتهما يحلمان بحياة زوجية هانئة، وبسبب الغاز اختنقا وتوفيا فى ليلة زفافهما، ونظراً لعدم تواجد أى قسيس تابع للطائفة الإنجيلية بالقرية يوم الوفاة قررت أسرة العروسين اللجوء لكنيسة مارجرجس الأرثوذكسية باتليدم وطلب إجراء صلاة التعزية فى الكنيسة ولكن كهنة الكنيسة رفضوا الصلاة على العروسين بحجة أنهما تزوجا زواجاً إنجيلياً!! هذه القصة المأساوية تجسد لنا إلى أى مدى تغلغل التعصب لدى بعض المتطرفين فكرياً ومن ثم تغلبت النظرة الطائفية البغيضة على النظرة الإنسانية حتى داخل الدين الواحد.

و«الدوجماطيقية» هى الأساس فى تأسيس «الأصولية» بكل أنماطها فى أى دين أو فى أى مذهب يدعى امتلاك الحقيقة المطلقة، وصراع الأديان هو دلالة وقوع الإنسان فى وهم الاعتقاد بأنه مالك للحقيقة المطلقة، ومن يتوهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة هو متعصب بطبعه، والتعصب اتجاه نفسى لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معيناً إدراكاً إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية، لذا فإن مناقشة موضوع التعصب أو التطرف بكل أشكاله السياسية أو الأدبية أو العنصرية أو الدينية، إنما هو سبر أغوار النفس الإنسانية بنشأتها وتكوينها، وهى محاولة لا يألو الإنسان فيها جهداً لمصارعة ذاته بذاته، فإما أن ينتصر عليها ويخضعها لسلطان العقل أو أن تفلت من عقال العقل وتنحدر نحوالحيوانية بعد أن خلقها الله بأحسن تقويم.

تقف وراء التعصب أسباب عديدة، فالتعصب أولاً وقبل كل شىء نزعة ذاتية انانية»نرجسية» كامنة فى كل كائن بشرى، ولكنها تطفو الى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ الجو الملائم لها، حين تواجه الذات «الأنا» بالآخر وتتصور أنه تتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه. فالمسألة إذن هى تصور ـ لا إيمان راسخ بأن «الآخرين هم الجحيم» كما يقول «سارتر».

إن التعصب تقديس للأنا وإلغاء للآخر، فكل ما تقوله «الأنا» يدخل فى حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل فى حكم الخطأ، ويقود هذا إلى موت لغة التواصل والحوار، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق وتحفر الخنادق وتستباح الدماء.

إن التعصب انغلاق وانكفاء نحو الداخل وارتداد على الذات وتقوقع فى زاوية ضيقة، ورؤية قاصرة للكون، والبشرية فى سعيها لتحقيق المجتمع الإنسانى المثالى بحاجة دائماً إلى الانفتاح والنزوح نحو الخارج واستشراف الآفاق البعيدة وتمزيق الشرانق التى ترسم الدوائر الضيقة، فهى بحاجة الى التآلف والتآخى والتكاتف واقتسام المعاناة بدلاً من التخندق والمواجهة ورسم التخوم العازلة وهدم جسور التواصل التى يؤدى بالنتيجة إلى الإرهاب، ذلك الكابوس الذى تعانى منه البشرية.