رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصارحة لا بد منها


مصارحة لا بد منها لعلها تحرك مياها راكدة على مدى تاريخنا، نسمع ونقرأ ونشاهد ما أصاب القاهرة الكبيرة من أزمات فى المرافق وعشوائيات المبانى والهجمات الشرسة التى داست القوانين بمعاول ثقيلة حتى اختفت غالبية القصور والفيلات لتقام مكانها العمارات الشاهقة الارتفاع وغير المتناسقة فى اشكالها المعمارية أو حتى ألوانها وكأنها مسابقة بين مشوهى الجمال والذوق غير الرفيع...

... مع اننا نشاهد ونسمع ونقرأ عن دول قديمة مثلنا أو حديثة مثل بعض امتدادات القاهرة الجديدة كما أطلقوا عليها، فحتى هذه الجهات لم نقرأ يوما ان لكل جهة نسقاً فى الألوان الظاهرة، بل كل يفعل ما يشاء وما يحسن فى عينيه دون اعتبار للذوق العام، أما ما دفعنى لكتابة هذا المقال هو ما شاهدته عيناى فى احد الأحياء التى كنا نفتخر بها فهى - على الأقل - فى الأحياء الأولى، وقبل الامتدادات التى طرأت عليها وأعنى بها مدينة نصر، والتى من اسمها نربط تاريخها بتاريخ ثورة مصر التى أنشدنا لها الأناشيد ومن اهم شوارع المدينة ما اطلق عليه شارع مكرم عبيد، وبالطبع لا يزايد احد على تاريخ ذلك الرجل الوطنى المخلص الذى احتمل الكثير من أجل مصر، وانتهت حياته بيد مصرية أيضاً، وهذا ليس مجال هذا المقال وإن كنت بعد مشاهدة على أرض الواقع لا أرى قدراً من التكريم لصاحب هذا الاسم مع ما وصلت اليه حالة ذلك الشارع الكبير.. عدت من الولايات المتحدة بعد مرحلة علاجية طويلة، وكان لزاما على أن أمارس رياضة المشى على الأقل فى الساعات المبكرة، وتحديدا بين السادسة والسابعة صباحا، وقبل الزحام المألوف، ومع كل الأسف والألم لما شاهدته فى الأيام القليلة، الشارع الكبير فقد كل - ولا أقول

بعض - خصائصه، وأسوق بعضا مما فقده هذا الشارع، فالقذارة تشهد أن هناك عجزاً فى رجال ونساء كانوا يتولون نظافة الشوارع حتى الجانبية، ويبدو أنهم إما هاجروا أو رفضوا تلك الوظيفة لأنها لا تتماشى مع روح العصر، أو مقابل مجز للعمل، ولا يقف الامر عند عمال النظافة، بل ما أصاب الأرصفة على جانبى الشارع يدعو للألم والحزن، فمن لا يحرص على خطواته وعيناه على قدميه مكانه الجبس ومستشفيات العظام، وليس الامر مقتصراً على النظافة وسلامة الأرض، بل هناك بقع من الماء لا علاقة بها والأمطار التى سقطت من عل، فهناك امطار بشرية ان لم تدركها العين فيسبقها الأنف، أما ما آلمنى مشاهدته تلك الأم التى تنام على جانب الطريق على أحد أضلاع ما تعارفنا عليه بحديقة الطفل، وما لحق بها لتنام تلك الأم وبحضنها طفل لا يتجاوز العامين من عمره تحت الغطاء، وهما متكوران من البرد الذى حل مؤخرا بعد موجة الحر، ولا أعرف ما سيحدث للأم وطفلها فيما يتقدم من أيام، أما محيط الحديقة وقد احتل رصيفها لنحو عشرة أمتار من الطريق العام، وهو أحسن حالا وإن لم يخل من بعض الاحتلالات بأكشاك بيع الشاى وما تحدثه من مخلفاتها، أعود إلى الشارع الرئيسى والمسمى بمكرم عبيد، ومع الأسف فقد فقدالشارع الكثير من كرامته، ولم يعد معبّدا للسير فيه على الأقدام، وراكبو السيارات لا يهمهم كثيرا «الغلابة» المترجلين، فلا اعتبار لتقاطع الشوارع ولا حدود للسرعة، فالساعة مبكرة والطرق شبه خالية، وليفعل كل ما يحسن فى عينيه، ولو كنت فى موقع من له الامر لألغيت ترخيص السيارات التى بها هذه الأصوات المزعجة والمقلقة للراحة مكتفيا بالإشارات الضوئية مع استحالة هذا، أما الممكن اذا أراد من له الامر هو غرامة موجعة لاستخدام الأصوات المزعجة إلا عند الخطر، أما تقاطع الشوارع فى ذلك الشارع الكبير فلا احترام لها من حضرات راكبى المركبات، والبديل هو إشارة مرور ضوئية على كل تقاطع اذا ما كان للأرواح الآدمية، ولا أقول حتى الكائنات الأخرى، لها احترامها فى غالبية المدن فى العالم الذى ولد بعدنا بآلاف السنين، أما ما آلمنى أكثر ففى الشارع المذكور يقع احد أضلاع حديقة كبيرة يقدر طول الضلع بنحو نصف كيلومتر أو يزيد، ويبدو انها أقيمت فى زمن كان فيه الطفل موضع اهتمام اكبر من أيامنا هذه، حيث إنى لم الحظ اى علامة للحياة فى هذه الحديقة، فالأبواب يعلوها الصدأ والجنازير كذلك، وكان يمكن الاستفادة منها فى التريض ولو برسوم قليلة إذا كانت المشكلة هى وجود عمال، أما اذا لم يعد للحديقة منفعة وربما من أنشأها أو أطلق اسمه عليها لم يعد له وجود، فكل ما اعرفه انها تدعى حديقة الطفل، مع أنى لم أر أى علامة للطفل او الطفولة، وأن كان على ما يبدو أن بعضا منها مخصص لمكتبة لا أدرى من وكم عدد القراء أو المستفيدين من هذه المساحة الكبيرة، أما إذا لم يعد للمكتبة جدوى، ولا للحديقة استخدام، فلا مانع من استخدام أرضها لحل جزء من مشكلة الإسكان، آسف، أقصد باباً لجمع أموال كثيرة البلد أحوج اليها فى مشروعات اهم من صحة الغلبان، اقصد هذا الإنسان المحتاج إلى نسمة هواء «شبه جيد»، أما جانبا الشارع الرئيسى فحدث ولا حرج، فهناك من أغلق بحواجز وجنازير مساحة كبيرة من أصل الشارع، ويبدو أن مسئولينا مشغولون بأمور اكثر أهمية من مساحة عرض شارع، أو الاعتداء على حرمة الشارع، وارتفاعات شاهقة بعد أن كانت القوانين تحدد المبنى بثمانية أدوار فقط بدعوى قرب الناحية من المطارات، ربما كان ذلك فى عصر الطائرات المتخلفة التى لا تعرف تجنب الاصطدام بالمنازل، وها قد تم التغلب على هذه الاخطار، ولا مانع أن ترتفع العمارات الحديثة إلى ما يقرب من ضعف الارتفاع ايام التخلف الطيرانى، والحمد لله الذى هدانا إلى هذا السباق المحموم فى عشوائيات المبانى بألوانها وارتفاعاتها. إلى من نوجه هذا النداء وقد كثر المسئولون، من السيد وزير الحكم المحلى إلى السيد المحافظ إلى رؤساء الأحياء، بل إن لمحافظة القاهرة تميزا آخر لكونها عاصمة البلاد حتى اصبح للمحافظ نوايا، وأخشى أن أقول قد «كثر خطابها حتى بارت»، أو قربت من ذلك، أما المثل الآخر فهو «بين حانا ومانا ضاعت لحانا».. أدعوكم وأرجوكم أعيدوا الاهتمام بحديقة الطفل أو الأسرة لتفتح أبوابها للمتريضين امثالنا، مع ان فى هذا الشارع الرئيسى اكبر المتاجر التى تصل أرباح أصحابها إلى الملايين، ولا أقل من المساهمة فى إعادة رصف جانبيه، وللسادة الذين احتلت لافتات دعايتهم الانتخابية سماء ذلك الشارع، ليتهم أقلوا منها وساهموا فى إعادة هذا الشارع إلى ما كان عليه، وكتبوا أسماءهم لتاريخ أطول وأكثر ضماناً، لأن فرصتهم فى النجاح محدودة بعدد المزاحمين.. أعيدوا لمكرم عبيد ما يستحق، فَلَو قدر له أن يعود إلينا او لأسرته الكريمة أن ترى ما وصل اليه حال هذا الشارع لفعلوا شيئا، نعم الابواب كثيرة إذا خلصت النوايا وتحركت الهمم، وكل هذا ميسور، بل أقل تكلفة مقارنة بالنفع والذوق وجمال صورة مصر التى شوهناها بالأعمال المخالفة أو بالإهمال غير المقصود مع حسن النوايا.