رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وهل يوجد حقاً سلام؟


مع اللحظات الأولى لميلاد السيد المسيح وقبل أن يسمع الخبر أحبار اليهود ورجال السياسة كانت أجناد السماء بألحان ملائكية تهتف «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة». فوسط زحام الحياة وأضوائها وضوضائها، تاه المعنى وغاب الهدف من مولد المسيح على أرضنا، كما تاهت معانٍ كثيرة وقيم نبيلة مع زحمة الحياة، فهناك ضجيج وغناء، وعلى مقربة منه بكاء ونواح وحزن وأنين وقهر وإذلال، مع تخريب وتدمير واغتصاب من بشر، من ذئاب فى ثياب بشر، ووحوش فاقت وحوش الغابات! حتى رأينا من يأكلون لحوم إخوة فى الإنسانية والأوطان.
حتى يقتل الزوج لاغتصاب
الزوجة أو الابنة، وبيعت الأجساد والأعراض فى أسواق النخاسة، وتيتم الأطفال من الآباء والأمهات.

وأنا أكتب هذه السطور أقرأ خبر قتل الزوج الطبيب مع زوجته، وخطف الابنة التى قاربت من العشرين، وترك الطفلين الأقرب إلى مرحلة الرضاعة على الأرض الليبية، والتى ذهب إليها الطبيب معالجاً لمرضاهم، وإن بقيت عقولهم يحشوها الأحقاد والكراهية، وبكل الأسف يفعلون كل هذا باسم الدين والإيمان. ومع كل ما يحدث حولنا من جرائم إنسانية، وتدهور فى الأخلاق والأفعال، بقيت أجراس الميلاد تعزف لحن السلام الذى نادى به مولود بيت لحم مكرراً «طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون». لقد ولد «المسيح» فى أجواء لا تقل شراسة وعنفاً عما نحن فيه وما نعانيه، ولكن رسالة السيد المسيح غيرت قلوباً حجرية، وعقولاً صلبة متشددة، وإلا لأكل نصف سكان هذه الأرض نصفه الآخر، إذ مازالت بقية عرفت معنى السلام وحب الآخر، وإلا ما وجدت أعمال الرحمة، وفرق الإنقاذ مثل الصليب الأحمر، وفرق الإنقاذ وتوفير المعونات والأطعمة وأماكن الإيواء، وأعمال الرحمة التى لا توجه فقط إلى بنى الجنس أو أتباع دين دون غيرهم، بل توجهت الإسعافات والمؤن الى ضحايا العدوان.

لقد عاش مولود بيت لحم أيامه على الأرض يعلم ويشفى، بل ويقيم الموتى، فكان وبحق رحمة لكل محتاج حتى نادى فى تعليمه «طوبى الرحماء فإنهم يرحمون»، فغيرت أفعاله وتعاليمه القلوب الحجرية، والتوجهات العدائية. إن من يريد التعرف على المسيح المعلم والمحب لكل البشر فليقرأ عظته التى عرفت بموعظة الجبل، وخاصة الجزء المعروف بالتطويبات، أى مجموع كلمة طوبى، أى سعادة لكل متضع الروح غير متكبر، أو متغطرس فإن لمثله ملكوت السماء، وللحزانى الذين تمتعوا بتعزيات السماء، وللودعاء أى المتضعين، غير المنتفخين والمتعجرفين، لأن لهم بركات الأرض قبل الآخرة، وسعادة الجياع والعطاش الى نبع الحياة، وكلمة الله. وهذه الأوصاف الربانية لا تأتى إلا من قلوب نقية، ومساع جادة لصنع السلام الذى هو من صفات الخالق، فهو رب السلام ومصدره، وواهبه لمن يطلبه. كما أن حياة السيد المسيح وتعاليمه ومعجزاته غيرت حياة الملايين عبر الأجيال، وفى بقاع الأرض فهو لايزال يغير ويجدد ويجذب اليه الملايين الذين يطلبونه من قلوبهم ويسلموه دفة حياتهم، فلهذا قد ولد، وهذا ما علمه ويفعله فى كل العصور وبقاع الأرض، فقد جاء المسيح الى عالمنا ليغير القلوب وينير العقول ويشفى كل ضعف فى الشعوب. لقد ولد السيد المسيح فى عالم مضطرب يعج بالكراهية واستباحة الدماء والاتجار بالقيم، حتى العبادة التى غدت تجارة، الأمر الذى دعاه ليطرد من الهيكل باعة الحمام وتجار العملة حين أعلن «بيتى بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص. لقد ولد المسيح بهدف تغيير العالم وتحريره من الخوف والهلاك، فاتحاً باب السلام مع النفس ومع الله ومع سائر البشر. لقد غدت أعظم عطية ميلادية هى منحة السلام الذى يفيض على النفس، وكل من وما حولها، فبالسلام عرفنا الفرح، وبه نقدر قيمة ومعنى الحب، وبالسلام يفيض الخير حتى لا يموت أحدنا من الجوع، بينما يموت آخر من نهم الأكل والشرب، فبالسلام ندرك معنى العطاء وقيمة الحب. والمسيح يفتح عيوننا لفهم الفرق بين سلام الله وسلام العالم، فسلام الله لا يبادل بالمنافع والاستحواذ، فذلك سلام نفعى لن يدوم طويلاً. ولعلى فى قصة تلك السيدة التى كتبت على قبر زوجها «أرقد فى سلام»، وبعد أيام الحداد فتحت وصية الزوج لتصدم زوجته أن زوجها لم يكتب لها أى نصيب فى ثروته، لتسرع الى القبر وتضيف على شاهد القبر كلمتين لتقرأ الجملة الجديدة على هذا النحو «أرقد فى سلام لحين أراك». إنها تتوعده حتى فى الآخرة. أما مولود بيت لحم، فوعده بسلام لا يتغير ولا يقارن، أعلنته الملائكة «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة». إن عالما بلا سلام الله يصبح غابة أشد خطراً من علاقة الوحوش الضارية، فيكفى أن نراجع تاريخ الإمبراطور «نيرون» الذى أحرق روما ليتهم المسيحيين أنهم هم الذين أحرقوها حتى يجد لنفسه مبرراً للتخلص من مسيحيى روما، فيطلق عليهم الأسود الجائعة فى المسرح الكبير وسط صيحات السعادة من أعداء المسيح، وكان صراخ الأطفال والنساء والرجال كَلَحْن طرب للإمبراطور وشعبه. وكرر الفعلة الشريرة من خلف نيرون حينما أحضر تيطس مسيحيى أورشليم ليذبحهم فى هيكل الأوثان، وكان ذلك فى عام ٧٠ ميلادياً. لقد ظن أباطرة روما أن ما فعلوه بالقضاء على المسيحيين سيهنئهم بالاً، إلا أنه كان سلاماً مزيفاً لم يدم طويلاً. أما سلام الله فلم تستطع روما أن تحققه بكل الحيل والإرهاب والقتل. أما سلام مولود بيت لحم فهو ما لا تستطيع الدنيا أن تمنحه أو تمنعه. أما سلام السيد المسيح فهو سلام غير مرهون بإنسان يعجز أو يفشل، لكنه سلام الله، السلام الذى يمنحه الله ويصونه. العالم يتحدث اليوم عن وسائل تهدئة لنسيان الجروح، وليس للشفاء الذى يمنحه ملك السلام مولود بيت لحم. وسلام الله الذى وعد به المسيح يبنى على شفاء كامل للنفس البشرية، سلام من الخوف والقلق والاضطراب الذى هو نتاج الخطية.

إن شفاء النفس لا يتحقق إلا بطلب مغفرة الخطية، وهذا المطلب لا يتحقق إلا من الله غافر الخطايا لكل نفس تلجأ إليه باعتراف وتوبة حقيقية لله الذى يمحو جميع آثامنا ولا يذكرها أو يعيرنا بها، فالسلام صناعة إلهية، وهو وحده الذى يملك المغفرة والصفح وليس بإنسان. لقد وعد السيد المسيح أنه يغفر ويصفح، بل وينسى بإرادته خطايانا، كما وعد أنه يمحو كغيمة خطايانا، إذا نستطيع أن نجيب على التساؤل «وهل يوجد حقا سلام». نعم يوجد سلام حقيقى «لا تقدر الدنيا تنيل هذا السلام الأسمى، كلا، ولا عنا تزيل تلك العطايا العظمى