رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لازورد

عبير العطار
عبير العطار

أنا صوفى أبوطالب، بت أستعذب العزلة، مؤخرًا، فقد أجبرتنى على تجنب التلفاز القابع أمامى كشاشة صماء سوداء بلا أى فائدة، نادرًا ما أفتحه لأتابع خبرًا، أكتفى بكتابة مقالى الأسبوعى لجريدة تحاول أن تسابق بقية الصحف «الإلكترونية» بوضع الكثير من العناوين المثيرة لاجتذاب فضول القراء. لست صحفية متخصصة ولا خريجة إعلام، ولكننى محبة للكتابة، ثقافتى العميقة بالشعر والشعراء تلهمنى دومًا وتضعنى فى عالم آخر يمنحنى فرصة العيش فى دائرة الفضول، مهنة تبدو معذبة لصاحبها، لكنها عمل يجتزننى من فكرة الجرى وراء لقمة العيش، تحمل الإثارة بين جنباتها، فإما أن تكون إنسانيًا جدًا، أو أن تحيد بكل المشاعر حتى تتمكن من كسب رزق محترم.

يوميًا أقف أمام مرآتى لأكيل لها ويلات الأمس، أطرح فى وجهها كل أسئلتى التى عذبتنى كثيرًا وتستمر فى تعذيبى لأننى رافضة الرضوخ، اليوم سؤالى لها: كيف السبيل، وإن جاهدوك لتبقى ميتًا؟

فبمجرد إحساس ينشأ بداخلى، أبنى بيتًا من أوهام لا حقيقة فيه سوى مرآتى وخيالى اللذين أرسلتهما فى رحلة مشاعر مستعرة، أبدأ فى محاسبة المقصرين وهم لا يعلمون، أمد جسرًا من العتاب، وهم ليسوا بحاجة إلى هكذا عتاب، أتصنع أننى مهتمة بهم لكننى منفعلة، لم يقدروا الاهتمام، وهلكوا من فرط حساسية مشاعرى. 

للحظات كنت أحس أن كل ذلك مجرد إضاعة للوقت، عبث الفراغ فى حجرة قلبى الخاوية هو ما منح الدموع صك قيد، وتبارت كل حواسى على محاولات الإفراج عنها فلم أتمكن. صحيح أن كيمياء الروح لا تشابه أختها، لكننى أظل أمارس الضغط للاستحواذ على ما أريد دون تراجع، لأن التعثر وقتها يعنى الاختباء، ما يهزمنى فيوجعنى.

هلوسات تناولتنى، جابت حاضرى وماضىّ، لم ألعن معها الظلام لكننى لعنت اللحظة التى لم أقو فيها على إيقاد شمعة من بصيص روحى، فمن لحظة رؤيتى كل هذه الدلالات فى شخوص ميتة أو تزحف للموت.. وأنا أشعر بأننى لم أعد كما كنت.

تغير إحساسى بالزمن، صرت أهب قلبى للحياة خوفًا من بارقة تشير للموت، لماذا يفزعنى الموت الآن؟! سؤال لطالما أرق روحى المنكبة فى البحث عن مخرج آمن للحياة.

الموت كلمة تبدو للوهلة الأولى لينة فى النطق وسهلة الإيقاع، ميم واو، تاء. ولكنه مجموعة من الحوادث المتراكبة. منظومة تحتاج منا وعيًا بحجم الصدمة وبقوة القهر لا نملك حينه أى شىء سوى الذهول أو الدهشة، تخدير العقل ونسيان كل شىء، حدث جلل يقودنا إلى نهاية نفق الحياة، ولكل نفق مخرج، لكننا نجهل المواعيد، نهاية مؤقتة لبداية لا نعلم تفاصيلها ولا حتى حدودها.

شغلت تفكيرى حيثيات هذه الكلمة بعدما شاهدت وقائع الزلزال الأوروبى فى شتاء فبراير ٢٠٢٣- وسط حروب معلنة وأخرى مضمرة- فى البداية بدا خبرًا كغيره من الكوارث التى تمر بنا، ولتكرارية المشهد ربما فقدت التأثر بها وقتيًا، توقفت من جديد وقتما أتخمت رحم الأرض من زائريها، الآلاف تحت الأنقاض فى غمضة عين، استمرت العذابات لبعضهم ساعات، ثم أيام قبل أن يقبض أرواحهم ملك الموت، كمٌ بشرى هائل نام ليصحو على لحظة تشريد قسرية فى ليلة شتاء صارخة، وكم آخر شردوا من الخيام من بعد تشريد مسبق، مشهد يثير حنقى، فماذا فعل كل هؤلاء كى يموتوا دفعة واحدة؟! والأطفال الذين انزلقت بهم البيوت وباتوا فى الطرقات يرتعشون، أو جرفتهم الطرقات المهزوزة تحت أقدامهم؟! ثم فجأة أمطار تهطل من سماوات الله ليزداد عذابهم برائحة الموت التى فاحت فى المدن بأسرع مما توقعوا، وعلى النقيض بصيص نور كان فى بضع قطرات ماء متسربة بدت كاللبن المسكوب داخل الأنقاض، لتسقى أُمًا ورضيعها اللذين لحساها من الجدران المتهدمة.