رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حاسة الحب السابعة

زيزيت سالم
زيزيت سالم

قامت من غيبوبتها تنزع عنها الأنابيب المتفرعة من جسدها والمتصلة بعدة أجهزة، تنزعها بهمّة وكأنها لم تكن نائمة بلا حراك منذ أيام، قفزتُ من مقعدى نحوها فزعة مستفسرة: ماما هل شُفيتِ؟ لا تنزعى الأنابيب سأستدعى الطبيب حالًا، أجابت: أنا بخير يا حبيبتى لكننى فى عجلة من أمرى لا بد أن أذهب، سألتها وقد علت ملامحى الدهشة: إلى أين يا أمى؟ أشارت بيدها إلى الفراغ ثم قالت بابتسامة مطمئنة: سأذهب هناك، ثم ظهرت من العدم طفلة صغيرة أمسكت بيدها وانطلقا معًا وغادرا المكان.

صحوت من الحلم أستجمع خيوطه وقلبى تتسارع دقاته، أتكون أمى قد أفاقت حقًا؟ كانت غيبوبتها الأولى التى سقطت على إثرها فى غرفة نومها، حينما هرولت إليها أنا وإخوتى فور سماعنا صرختها المتألمة، ونقلناها للمستشفى، حيث كشفت الأشعة المقطعية عن نزيف حاد بالمخ، أفاقت بعدها لمدة يومين، وتعرفت علينا، ثم بدت أحاديثها متضاربة، وكأنها تهذى، انخفضت درجة الوعى لديها لمرحلة لا يسمح فيها بالتدخل الجراحى، ثم تلتها غيبوبة أخرى استمرت عشرة أيام، بعد أن صعدت إلى غرفة بالطابق الثالث فى قسم المخ والأعصاب، تدهورت حالتها، وأصيبت بالتهاب رئوى حاد، تم نقلها على إثره للعناية المركزة مرة أخرى، غادرنا المستشفى أمس بعد انتهاء موعد الزيارة وهى على حالها فى العناية المركزة بلا حراك، لا تدرى بنا ولا تسمع أحدًا. 

أعدت تفاصيل الحلم فى ذهنى، ثم تذكرت أن قريبتى أخبرتنى أنها ستزور أمى اليوم، وأننى سأقابلها هناك، انتفضت من السرير، وهاتفتها وأنا أرتدى ملابسى: هل وصلتِ إلى المستشفى يا مها؟

ــ نعم أنا هناك.

■ دخلتِ لماما.

لا لم تبدأ الزيارة بعد، لكننى رأيتها من شباك العناية الصغير.

■ تأكدتِ أنها هى؟

ــ رأيت رأسها من الخلف وهى على سريرها، لماذا هذه الأسئلة؟

■ من أجل خاطرى يا مها، اسألى الممرضة عنها واجعليها تريكِ وجهها من شباك العناية وهاتفينى، سأكون فى طريقى إليكِ بعد عشر دقائق.

منذ اليوم الأول لدخول أمى العناية المركزة وأنا أتوسم خيرًا فى نوال الممرضة الودودة الموجودة بصفة دائمة هناك، لذا طلبت منها رقم هاتفها لأطمئن على أمى فى غير مواعيد الزيارة، اتصلت بها وردت على الهاتف فسألتها بلهفة: نوال وحياتك طمئنينى على ماما فى العناية وأخبرينى كيف هى اليوم، قريبتى هناك ويبدو أنهم غيروا مكان سريرها.

ردت بهدوء: فعلًا لقد أعدنا ترتيب الأسرة تبعًا لاحتياج الحالات الجديدة، فالوالدة تعيشى أنتِ.

■ فاجأتنى الصدمة فصحت بها: متى وكيف ولماذا لم تخبرينى فى ساعتها يا نوال؟ لقد أوصيتك واستحلفتك بالله أهكذا الأمانة؟

ــ صدقينى يا أستاذة داليا أنا أخبرك الآن رغم أنه مخالف للتعليمات، فالوالدة توفيت منذ ساعتين تقريبًا، ولدينا أوامر ألا نخبر الأهل إلا بعد مرور ست ساعات على الأقل، للتأكد من الوفاة، وفعلنا الشىء نفسه مع الطفلة التى توفيت فى ذات الوقت.

■ سألتها وصوتى يتهدج بالبكاء: أى طفلة؟

ــ لم نخبر أهل الطفلة ذات الخمسة أعوام بوفاتها حتى الآن، ولن نخبرهم إلا بعد مرور الوقت المحدد، لكى تعرفى أننى لم أقصر معكِ. 

مرت الأعوام وأنا على يقين أننى وأمى متناغمتان، وأننا اخترقنا حاجز الزمان والمكان فى نفس اللحظة التى فارقت الروح جسدها، التقطتُ رسالتها عبر الحلم كما تلتقط العين أمواج الضوء، فقد أدركْتُ أمى وهى على حافة الخروج من عالمنا، أدركتها بحاسة الحب السابعة.