رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. محمد الفايدى يكتب: حقيقة وزيف الوعى

يتجسد الوعي في القدرة الإدراكية التي يحكم بها الإنسان على الواقع الذي يعيشه والحقائق التي تجري من حوله والوقائع التي يطلع عليها، وكل ما يمتد إليه أفقه، بواسطة الاتصال والتواصل مع العالم المحيط به، وتفاعله مع مجريات كل ما يحدث، والذي يُشكل لديه حالة الوعي التي يحكم بها على الأشياء والأحداث، ويُجري بشأنها مقارنات ومقاربات ليتمكن من اتخاذ القرارات الملائمة التي تحاكي تقديراته لكل ما يطرأ ويستجد في مسيرة حياته العامة والخاصة.

في خضم ذلك يتعرض في الغالب لصنفين من الوعي: وعي حقيقي واقعي مدرك للواقع المعاش كما هو على حقيقته وليس كما ينبغي أن يكون. ووعي آخر زائف ومضلل لا يدرك الأمور على حقيقتها كما تجري، ولكن يراها في إطار تصورات غير واقعية تجعل حكمه على الأشياء مشوشًا وقراره مضطربًا.

بمقدار رسوخ مفاهيم الوعي الحقيقي في أذهان الناس، ونبذ الوعي المزيف وتجاوزه تتمايز المجتمعات البشرية، ويتبين الفرق في النموذج الذي تقدمه للعالم عن نفسها ولا يمكن أن تخفيه لأن حقيقة الوعي تعلن عن نفسها، وترسم ملامح حضارة المجتمع وأدوات تفكيره.

الوعي العام الحقيقي منصة لمنطلقات فهم واقعي وموضوعي وغير متشنج لمصلحة الجماعة العظمى التي كثيرًا ما تتجاذبها الآراء وتتداولها الممارسات المخلة بالمصالح المُجمع على سموها عن النزاعات والنزعات، لتبقى روح الحوار غير المتشنج ولغة التفاهم وقبول الآخر مرجعية النقاش وسند تداول الآراء وتبادل الحجج بين مختلف الفئات والأطياف والمشارب وحتى الثقافات غيرالمتجانسة، من أجل تجاوز الأحادية الجامدة إلى التفاعلية المتطورة تبعًا لتحضر المجتمعات وأدوات تفكيرها ضمن إطار ثوابت الأمة.

وحدة الدين واللغة والمبادئ والقيم والهدف والغاية وعاء شامل تنصهر فيه مكونات المجتمعات البشرية، بطلها الوعي الحقيقي لا الوعي الزائف بمخرجاته البنّاءة، وكلما يتجه الوعي العام نحو المصاهرة وتعلو فيه مصلحة الأمة على المصالح الفئوية والمنافع الفردية، ويتقدم فيه الصوت الجمعي على غيره من الأصوات ذات الميول والأهواء المائلة التي يفرزها الوعي الزائف، تقترب الولاءات من التجانس وتتباعد الانزلاقات المتعنصرة، وبمقدار تقدم الوعي العام الحقيقي على الوعي المزيف يمكن الاقتراب من محصلة التقارب ونبذ الفرقة والانقسام والتشرذم.

المشاركة درجة متقدمة في سلم أولويات الوعي الحقيقي، يتم من خلالها الخروج من محيط التأثر إلى دائرة التأثير على مسارات المنفعة الجمعية ووسائل الدفع بمصلحة الأمة، للولوج إلى محطات رسم السياسات الواعية والتشارك معها في صياغة المنهج الأكثر مضيًا لتقبلها وقبولها من الضمير الجمعي، من خلال نوافذ المجتمعات القائمة على منافعها التشاركية التي يُؤسس لها الوعي الحقيقي ويُنميها تنمية مستمرة في عملية تبادلية، لملامسة تطلعات الإنسان في مراحل مبكرة، والعمل على تحقيقها من خلال البناء الثقافي الذي يسن التشريعات والقوانين، والبناء الاجتماعي الذي بدوره يُحدد وسائل تحقيقها.

التعليم والتدريب والثقافة والتنشئة الأسرية والتدين والأدب والشعر والفن والإرث الحضاري والبيئة والمحيط الاجتماعي والمهارات الفردية والسمات الشخصية، جميعها مع غيرها من محددات القيم والأخلاق والسلوك متغيرات تُشكل الوعي وتعمل على صياغته وتجسيره وإمداده بمبادئ التفاهم وقواعد التعامل وأسس المفاضلة وأدوات الاختيار نحو القرارات الأقرب رشدًا والسلوكيات الأفضل مواءمة.

الإعلام بكل أشكاله، التقليدي والرقمي الحديث ووسائل التواصل الاجتماعي، دوره محوري في تشكيل وتوجيه الوعي وصناعته بداية، لا سيما في ظل تعاظم الدور الذي يلعبه في الوقت الراهن لتقدم وتنوع وسائله وفنونه التي تروج لبناء تصورات استراتيجياته نحو أذواق ورغبات وقضايا وتحديات ومشكلات وتطلعات أفراد المجتمعات.

تظل فئة الشباب أكثر الفئات المجتمعية تأثرًا بالتوجه الثقافي والانفجار المعرفي، وتوجيه الفكر، وتغيير أنماط السلوك، ترغيبًا أو ترهيبًا، إقناعًا أو قهرًا، وحتى سلمًا أو حربًا. وهذه الفئة هي المعنية بتغيير الثقافة وهندسة الوعي بجملة أدوات من أبرزها وسائل الإعلام التي تُعد المصدر الرئيس الذي يلجأ إليه الجمهور للحصول على البيانات والمعلومات، إضافة لقدرتها على مخاطبة المجتمعات بشتى اللغات وبمختلف الوسائل والوصول إليها بوسائل مختلفة وصيغ متعددة، لتسهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في تشكيل الوعي وفرض أنماط ثقافية وسلوكية بوتيرة سريعة ودون مقدمات.

تُخضع الشعوب العربية لأجندات وسياسات باتت تُجند الإعلام التقليدي والرقمي والقوى المؤثرة لفرض أنماط فكرية وثقافية وقيمية وسلوكية أحدثت تغيرات حقيقية في وظائف المجتمعات المختلفة، وفي محطات النفوذ والتأثير، وخلقت نموذجًا قصريًا من الصراع الذي يوجه الثقافة وثيقة الصلة بهوية الشعوب العربية لتشكيل وعيهم وآفاق مستقبلهم، بإدماجهم مع مخرجات الإعلام الرقمي والفضائي، الذي يستهويهم بالتسلية والترفيه وفنون الجذب والإبهار لتعطيل مواهب الفكر وقدرات الإنتاج.

يبدو أن الوطن العربي أضحى محطة كبرى لفرض القيم والأنماط السلوكية الغربية القصرية، وميدانًا رحبًا لاجترار الحروب وإعادة إنتاجها بقوالب متعددة لكسر إرادته وسلب ثرواته منذ زراعة دولة إسرائيل في وسطه وإشعال حروب فلسطين، وحروب التحرير، وحرب العراق وإيران، والحرب على الإرهاب، وحرب احتلال وتحرير الكويت، والحرب في لبنان والعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال، والآن في غزة والسودان. توحي تراكمية هذه الحروب والنزاعات والصراعات، والحرب الشرسة على أرض فلسطين في غزة، بأن المشهد يعكس واقعًا مؤلمًا مفروضًا على المنطقة العربية عليها مواجهته باستراتيجية مضادة.

نشر ثقافة الاختراق التي تقودها مجاميع دولية لتسطيح الوعي العربي، وتجسيد نمط معين من الثقافة والفكر والمعارف والسلع والخدمات لتوسيع دائرة الاستهلاك وجعل الإنسان العربي مستهلكًا ومتلقيًا يتكبد المشاق والمتاعب الحياتية لكسب قوته وتدبير موارد شئون حياته التي تتسم بالصراع المستمر مع نمط حياة جديد مليء بالإرهاق والتوتر والقلق.

لا أحد يستطيع التكهن بحجم التغير في الوعي العام العربي، ولكن حتمًا سيكون هناك تغير خاصة بين جيل الشباب ضمن موروث تتجاذبه الثقافات ورصيدها من العداء ونظرة الارتياب، وتتنازعه المصالح عبر مراحل تاريخية مضت منها البعيد والآخر قريب، فتفكك الاتحاد السوفيتي بعد خسارة الحرب في أفغانستان، وأحداث 11 سبتمبر وإعلان الحرب على الإرهاب ومن هو ليس معنا فهو ضدنا، والحرب على أفغانستان، ثم الحرب على العراق بعد حربه مع إيران، وحرب احتلال الكويت وحرب تحريرها، والانتفاضة الفلسطينية الثانية، واندلاع الثورات العربية قبل نحو عقد من الزمن، والحرب المستمرة في السودان واليمن وليبيا والعراق وسوريا ولبنان وغزة. مشاهد ضبابية تعكس واقعًا عربيًا متشبعًا بالطائفية والمذهبية والفئوية والمداهنة الدينية والسياسية التي خلقت تناقضات وجدانية وفكرية وسلوكية تتجاذبها الأهواء وتستدعيها المصالح وتلعب على أوتارها مراكز القوى الغربية، والأجندات الإقليمية المشحونة بالنزعة العدائية نحو كل ما هو عربي.

جملة متغيرات تموج بالوعي العربي العام، وتدفع به غالبًا نحو الفرقة والتشتت وعدم الاتحاد والعمل على عوامل ونقاط الاتفاق، بل تأخذه نحو عوامل الفرقة ونقاط الاختلاف لخلق مزيد من اللا وعي في وجدان شعوب الوطن العربي، وتعميق سمات التناحر والجدل والكراهية والأحقاد، وتقزيم الوعي وإلقائه في سلة المزاج السياسي المتذبذب بين الغضب والرضا حول سلم المنافع الضيقة والمصالح المتبدلة التي تُعظم جذوتها الصحافة، وتُوقد لظاها وسائل الإعلام، ليبقى الوعي العربي في إطار سياق الآية الكريمة "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا". أم أن الأزمات المتصاعدة ستستدعي وعيًا عربيًا مكتمل الشكل والمضمون؟.