رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غزة فى سيناء!.. تاريخ من أوهام ومحاولات إسرائيل بـ«حدوة الحصان»

جريدة الدستور

لأن "الذين لا يتذكرون الماضي؛ محكوم عليهم بتكراره"، كان لزامًا علينا أن نفتّش في تاريخ غزة وسيناء قبل وبعد حرب فلسطين؛ لنفهم وندرك أن ما ألمح إليه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بخصوص دفع أهل غزة إلى معبر رفح، لم يكن مجرد خطأ في التعبير، حتى وإن أعيدت صياغته لاحقا. 
الوقائع أكثر من أن تُحصى بين أوراق الجرائد القديمة وصفحات الكتب، نعرض بعضًا منها في هذه السطور، لتوثيق أطماع إسرائيل في سيناء، بعروض لمقايضة أراضيها، أو إنشاء مستوطنات عليها للاجئين، وبيان أثر استضافة مصر للفلسطينيين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

الرئيس: "غزة" وضعها مختلف


ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي في حفل تخريج الكليات العسكرية عن معاناة الأشقاء في غزة، وحتمية دعمهم وتمكينهم من الصمود في مواجهة العدوان، وضرورة إفساد المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تفريغ "القطاع" وتصفية القضية الفلسطينية، لم يأت ردًا على "مجرد تصريح صدر بالخطأ" عن متحدث باسم الجيش الإسرائيلي، وإنما جاء معبرًا عن فهم عميق للصراع العربي الإسرائيلي، ومعرفة واعية بتاريخ محاولات إسرائيل دفع الأمور في اتجاه "توطين أهل غزة" في سيناء، وإصرارها على تكرار السيناريو ذاته لعشرات المرات على مدار أكثر من 75 عامًا.
قال الرئيس إن المسألة لا تتعلق بمبدأ قبول مصر استضافة الأشقاء ودعمهم، فهناك أكثر من 9 ملايين "ضيف" على أرض مصر من مختلف الدول المضطربة، لم تعاملهم مصر كلاجئين. 


وليس ذلك شعارا أو كلامًا منمقًا، وإنما واقع يؤيده أن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" تقدم خدماتها للاجئين في الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، لكنها لا تقدم شيئا للمقيمين الفلسطينيين على أرض مصر، لأنهم ليسوا لاجئين في نظر القاهرة، أو حتى في نظر "الأونروا". وعلى هذا الأساس تلتزم مصر التزاما ذاتيا بتقديم كل الخدمات المتاحة لضيوفها دون تحديد إقامتهم في مخيمات أو معسكرات تديرها هيئات أممية.
لهذا اقترنت إشارة الرئيس السيسي لما لأهل غزة وفلسطين عموما من وضع خاص، لأن صمودهم على أراضيهم يحمي القضية الفلسطينية من الذوبان، مع إشارة إلى التزام مصر ببذل كل الجهد – المعتاد وأكثر – للتخفيف من معاناتهم، وحمايتهم من تغوّل قوات الاحتلال.

مصر رفضت ضم غزة 


هذا الوضع الخاص لغزة وأهلها، على وجه التحديد، بدأ مع إعلان الهدنة في مارس 1949، حيث نصت بنود الاتفاقية على أن تتولى مصر إدارة قطاع غزة. وتشكلت في القطاع ما عرف بـ"حكومة عموم فلسطين"، وكانت مصر في طليعة المعترفين بتلك الحكومة، رغم أنها في الواقع لم تبسط سيطرتها على كامل أراضي فلسطين، بحسب كتاب "قصة مدينة" لهارون هاشم رشيد.


وعلى عكس ما فعله عبد الله الأول ملك الأردن من إعلان ضم الضفة الغربية لبلاده، رفضت مصر ضم قطاع غزة إلى أراضيها، واعتبرتها وديعة وفقا لتعليمات وقرارات جامعة الدول العربية حتى لا تذوب قضية فلسطين. 


وقد جاءت المبادرة من أهالي غزة أنفسهم، فبحسب أرشيف جريدة المصري – الذي نرفق بعضا من صور صفحاته – فقد زار مصر في مارس 1950 وفد فلسطيني من أعضاء مكتب الشؤون العامة في غزة لينقلوا إلى الحكومة المصرية مطلب أهل غزة بالانضمام رسميا إلى مصر، وبررت الحكومة المصرية رفضها بأنها لا يمكن أن تقع في الخطأ الذي وقع فيه غيرها بالمخالفة لقرارات جامعة الدول العربية، فضلا عن أن سياسة مصر تقوم على الإيمان بأن "فلسطين للفلسطينيين". 


ولم تغفل الحكومة المصرية وعد الوفد الفلسطيني بزيادة الدعم المقرر للإنفاق على المشروعات التنموية وبناء المدارس والورش الصناعية في غزة.


ولمّا رفضت مصر ضم غزة سياسيا، عاد أهالي غزة في أغسطس 1951 ليطالبوا مصر بـ"ضم غزة اقتصاديا" للتخفيف من معاناة أكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني انتقلوا إلى قطاع غزة أثناء معارك حرب فلسطين، مما رفع عدد سكان القطاع إلى أكثر من 300 ألف، أغلبهم لا يجدون فرصا للعمل.


وأبدت مصر اهتماما بدراسة الموقف، وشكلت لجنة برئاسة وزير الاقتصاد الوطني لتنمية موارد القطاع وتوفير فرص عمل للاجئين الوافدين عليه من مختلف الأراضي المحتلة، مع إصرار على تجديد رفض مصر لفكرة ضم أراضٍ ليست لها، التزاما بقرارات جامعة الدول العربية التي شددت على خطورة إعادة توطين أهل فلسطين خارج أراضيهم حفاظا على الهوية الفلسطينية.

ليس خطأ بل "جس نبض"
وإذا كان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي زعم مؤخرا بأنه أخطأ في تلميحه بخصوص أهل غزة ومعبر رفح، فقد سبقه إلى الزعم بـ"الخطأ" المتحدث باسم الجيش البريطاني عام 1950، عندما عاد لينفي ما سبق وصرّح به للصحف بخصوص مقترح يقضي بسحب الجيش المصري من غزة، مقابل جلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس، على أن تنقل القوات المحتلة قواعدها العسكرية إلى أراضي غزة.
ورفضت الحكومة المصرية ذلك المقترح البريطاني رفضا قاطعا، بحسب الأرشيف الصحفي المرفق هنا، مؤكدة أن جلاء الاحتلال عن مصر آت لا محالة؛ لكن ليس على حساب أشقاء في محنة. وهو ما اضطر الجيش البريطاني إلى إنكار تقديم ذلك المشروع رسميا، واصفا إياه بـ"مجرد استنتاجات صحفية"!

التهجير بـ"حدوة الحصان"
في مطلع عام 1950، بدأت الحكومة المصرية في تنفيذ مطالب عدد من اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم في غزة وباقي الأراضي المحتلة، بعد تيقنهم من استقرار الهدنة. لكن متى وأين استقبلت مصر هؤلاء اللاجئين وغيرهم؟
في شهادة المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين نجد الإجابة، وتنبع أهميتها من كونها تجربة ذاتية له ولأسرته. وفيها يقول إن أسرته فرّت إلى بورسعيد قبيل سيطرة قوات الاحتلال على مدينة يافا الفلسطينية، وبعد فترة، وصلت إلى الميناء المزيد من الأسر "اليافاوية" الفارة من قوات الاحتلال، وأعدت لهم الحكومة المصرية حجرا صحيا في منطقة جنوب بور فؤاد.
وعرض محافظ بور سعيد فؤاد شيرين باشا على أعيان المدينة مستجدات الأمر، فتسابقوا إلى التبرع دعما لجهود استضافة أولئك اللاجئين. لكن على غير المتوقع، انفجر بعض شباب اللاجئين غضبا من تعليمات "حكومة النقراشي باشا" بتحديد إقامتهم داخل المعسكر المعد لذلك، حتى وصل الأمر إلى إطلاق النار على رجال البوليس المصريين.
وكانت قوات الاحتلال قد اتبعت أسلوب "حدوة الحصان" في حصارها لأهالي فلسطين في كل مدينة وقرية، بحيث تعرّضهم لإطلاق النار من 3 جهات، على أن تترك أمامهم منفذا واحدا للنجاة بأنفسهم وعائلاتهم، فيسارعون إليه هربا من أراضيهم؛ فتضرب إسرائيل عصفورين بحجر واحد: تكسب الأرض، وتتخلص من مقاومة السكان.
وعلى سبيل المثال، اندفع أهل يافا المحاصرين من 3 جهات إلى البحر، واختار أغلبهم الانتقال بالقوارب إلى غزة وسيناء بحثا عن الأمان. وبزيادة عدد الفارين إلى الأراضي المصرية، أقامت الحكومة معسكرا في مدينة القنطرة، وآخر في صحراء العباسية بالقاهرة، وتولت "مبرة محمد علي" الخيرية تقديم الطعام والملابس والأدوية لهم، كما خصصت لأبنائهم مدرسة ابتدائية لمواصلة تحصيلهم.
واستقرت الأمور حتى انتهاء حرب فلسطين وإعلان الهدنة، فشعر الفلسطينيون بأنه لم يعد لبقائهم في تلك المعسكرات ما يبرره. وعن ذلك، قال عبد القادر ياسين: حدث أن زارنا عبدالرزاق السنهوري باشا، وزير المعارف؛ فخرجنا نحن تلاميذ المدرسة في مظاهرة نهتف بصوت واحد: "بدنا غزة، بدنا غزة". وما هي إلا بضعة أيام، حتى بدأت القطارات تنقل اللاجئين الراغبين في العودة إلى أراضيهم.

تجربة لجوء ما بعد النكسة
لم تتأخر مصر يوما عن تقديم الدعم، بالدم قبل المال، وبالسلاح قبل الشعارات، لذلك لم تنقطع استضافة أهل غزة وباقي أهل فلسطين على الأراضي المصرية، خصوصا بعد قيام ثورة 1952 وتزايد المد العروبي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حيث عاملتهم الدولة معاملة المواطن المصري، وتمتعوا بحقوق العمل والتعليم والتملك.
واستغلت إسرائيل ذلك الترحيب المصري، فباتت تمارس كل وسائل الضغط على أهل غزة خصوصا، لإجبارهم على الهروب إلى مصر، باتباع نفس أسلوب "حدوة الحصان"، إمّا بالتهديد العسكري والأمني، أو بتضييق الخناق وسُبل العيش، مما يضطر "الغزاوية" وغيرهم إلى الانتقال إلى مصر بحثا عن المعاملة الأفضل والخدمات الأوفر، وهو ما صب في مصلحة إسرائيل الراغبة في التخفيف من عدد سكان القطاع بمنعهم من العودة إليه مجددا.
وفي الشهور التي تلت حرب يونيو 1967، لجأت إسرائيل إلى التهجير القسري للسيطرة على قطاع غزة، مما دفع الآلاف من السكان إلى الفرار إلى مصر، فسمحت لهم في هذه المرة بالإقامة في منطقة مديرية التحرير، ووفرت لهم فرص العمل في الأراضي المستصلحة، وكلّفت وزير الشؤون الاجتماعية حسين الشافعي بإعداد خطة لرعايتهم لحين استقرار الأوضاع وبحث مصيرهم.
ويخبرنا أرشيف مجلة "آخر ساعة" بتصريحات للشافعي قال فيها إن "اليهود يرسلون لنا يوميا ألف لاجئ من أهل غزة"، وهم أهلنا ولهم علينا حق الإيواء. ولقد خصصنا لاستضافتهم 4 قرى في مديرية التحرير، وهي قرى: "عمر بن الخطاب، ووعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وحراء"، وتضم 9 آلاف لاجئ. كما خصصنا قرى الإصلاح الزراعي في سمالوط بالمنيا لاستضافة 11 ألفا آخرين. ونسقنا مع وزارة التعليم العالي لإقامة الطلبة اللاجئين في المدن الجامعية.
اللجوء "فخ" وليس حلًا
فماذا فعلت إسرائيل أمام هذا الكرم المصري المعتاد؟
هدمت منازل اللاجئين، وأعدت مسحا وتعدادا للسكان في غزة وسيناء، ومنعت الباقين من العودة إلى إراضيهم، لتزداد الأزمة تعقيدا.
وليس ذلك استنتاجًا، بل واقعًا تثبته تقارير الأمم المتحدة، ومنها نقرأ: "إن حكومة إسرائيل تنفذ بصورة متعمّدة سياسات تهدف إلى منع عودة سكان الأراضي المحتلة إلى بيوتهم، بل وإخراج من يعيشون في منازلهم، عن طريق وسائل مباشرة مثل الترحيل، أو غير مباشرة مثل تقويض معنوياتهم أو تقديم حوافز خاصة لهم، بهدف نهائي هو ضم الأراضي وتوسيع نطاق الاستيطان".

مخيمات إسرائيل في "سيناء المحتلة"


أما بخصوص "الحوافز الخاصة" الوارد ذكرها في التقرير الأممي، فإن الجهات البحثية الفلسطينية تقر بها من واقع شهادات اللاجئين والمهاجرين الفلسطينيين، ومنها "الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية" التي تذكر أن قوات الاحتلال كثيرا ما لجأت إلى استراتيجيات متعددة لتشجيع الفلسطينيين على الرحيل، ومنها إنشاء مكاتب للهجرة في مخيمات اللاجئين في غزة، لعرض الأموال على أولئك الذين وافقوا على الانتقال النهائي إلى الخارج، وترتيب الأمور اللوجستية لمغادرتهم. وعلى من يرفض الرحيل، أن يتحمّل كل الإجراءات التي من شأنها خفض مستوى المعيشة في غزة، كوسيلة لدفع الناس إلى المغادرة. 


وبحسب "الموسوعة"، فإنه في النصف الأول من عام 1968، هاجر نحو 20 ألفا من غزة، وكانت الحوافز المالية التي قدمتها إسرائيل عاملا رئيسيا في رحيلهم النهائي.


وبالطبع رفضت الغالبية العظمى من أهل غزة تلك الحوافز الإسرائيلية للهجرة، ودعموا العمل الفدائي المسلح ضد إسرائيل، فلجأت قوات الاحتلال بقيادة "شارون" إلى تفكيك عدد من مخيمات اللاجئين في غزة، وأعيد توطينهم بالقوة في مخيمات داخل صحراء "سيناء المحتلة"، بدعوى مكافحة الإرهاب وتخفيف عدد سكان القطاع.


إذن، لم تقتصر أطماع إسرائيل في سيناء على احتلالها، وإنما شملت تلك الأطماع خططا بديلة، منها طرح سيناء كوطن بديل للفلسطينيين تلميحًا وتصريحًا، بل وتطبيقًا فعليا خلال فترة احتلالها سيناء بعد هزيمة يونيو 1967. ولا تحتمل المساحة هنا سرد تاريخ وكواليس الأطماع الصهيونية في سيناء قبل حتى إعلان دولة إسرائيل ذاتها بنحو نصف قرن، ويوثقها الدكتور قدري يونس العبد في كتابه "سيناء في مواجهة الممارسات الإسرائيلية".

سيناريو متكرر ومفضوح
لهذا كله، حين تتحدث مصر رسميًا أو شعبيًا عن مخاوف توريطها أو إحراجها أو ابتزازها بحديث عن إعادة التوطين في سيناء، أو حتى استضافة مخيمات رسمية، فهي لا تختلق افتراضات من الهواء! وإنما يثبت التاريخ أن المحاولات متعددة. 
ولا يعني ذلك أن دعوات التوطين رغبة فلسطينية بالضرورة، وإنما هي بالتأكيد سيناريوهات إسرائيلية وغربية للحل، وإلا فلماذا كررت إسرائيل عروضها على الرئيسين السادات ومبارك بخصوص سيناريو مقايضة جزء من أراضي سيناء بأراضٍ في صحراء النقب لقبول توطين أهالي غزة؟ 
الإجابة ببساطة، لأن المستفيد الأول من هذا السيناريو القديم/ المتجدد هي دولة الاحتلال ذاتها، وليست غزة أو مصر.
ولأن مصر تدرك جيدا تاريخية ذلك السيناريو المفضوح، فإنها لا تتفاجأ في كل مرة يجري طرحه بأكثر من وسيلة، وتصر على موقفها باستمرار جهودها الدبلوماسية للتخفيف من معاناة أهل غزة، ودعمهم بكل ما تملك، دون الخضوع لابتزازات إعلامية يحترفها العدو والصديق، لإيمانها بأن "من لا يتذكرون الماضي، محكوم عليهم بتكراره".. وذاكرة مصر لا تنسى.