رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأسعد المحواشى.. الفنان الذى اختبأ خلف عروسته ليفضح شر العالم

الأسعد المحواشى
الأسعد المحواشى

«فنان العرائس هو الذى لا يُرى.. إنه يوجه كل طاقته وكاريزمته وحضوره إلى العروسة.. يمررها عبر أنامله، ويرضى أن يكون اللاعب فى الخفاء من أجل أن تصير العروسة بطلًا، فتحقق تأثيرها الفنى المطلوب لتصل رسالة العمل الفنى كاملة للجمهور».. هذا ما قاله فنان العرائس التونسى الأسعد المحواشى، الذى صدمنا جميعًا برحيله بعد تعرضه لجلطة فى المخ خلال مشاركته بمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى. 

وصرح «المحواشى»، ذات مرة، بأن «العروسة التى يعبر بها الفنان وهو مختبئ، هى التى كانت عوضًا كبيرًا عن الطفولة الصعبة، وقد أراد عبر رسالته كفنان عرائس أن ينشر هذا الجمال ليعوض الآخرين أطفالًا وكبارًا». 

وشارك الفنان الراحل فى مسرحية «ما يراوش»، كمحرك للعرائس، ومشرف على ورشة صنع العرائس المحمولة بالعرض المسرحى. 

وعمل الأسعد المحواشى أستاذًا لمادة «مسرح العرائس» بالمعهد العالى للفن المسرحى فى تونس، وهو أحد مؤسسى ومنشطى فن العرائس فى تونس، كما شارك فى تأسيس المركز الوطنى لفن العرائس بتونس، وظل يعمل فيه منذ تأسيسه وحتى يوم وفاته، إذ كان عرض «ما يراوش» المشارك بالمهرجان للمخرج التونسى منير العرجى، من إنتاج المركز. 

ولعب «المحواشى» دورًا مهمًا فى مجال التكوين المسرحى فيما يتعلق بفنون الدمى والعرائس، إذ قدم العديد من الورش لفنانى المسرح والعرائس أو للأطفال والناشئة فى تونس والمغرب والجزائر والإمارات والكويت وقطر والعراق، فى مجالات عرائس القفاز وخيال الظل والعرائس المحمولة والتحريك والتعريف بفنون الدمى والتدريب عليها، وهو أيضًا مخرج مسرحى قدّم خلال مسيرته عددًا كبيرًا من الأعمال القيّمة. 

وكان آخر أعمال الفنان الراحل مسرحية «طبيب الضيعة»، عام ٢٠٢١، ونالت أعماله جوائز عديدة، وكان آخر تلك الجوائز الجائزة التى حصل عليها العرض المسرحى «لقاء»، عام ٢٠١٦، الذى فاز بالدرع الذهبية لفن العرائس فى ماليزيا، ضمن ١٧ عملًا مشاركًا من كل أنحاء العالم، وله أيضًا «من العشق ما قتل» و«الديناصورات» و«أنا سندريلّا» و«السيد والعبد» و«الكسوة». 

وكان الأسعد يعتز كثيرًا بعرضه «الكسوة»، الذى وظف فيه بطريقة عضوية تقنية خيال الظل لتجسيد إحدى حكايات ألف ليلة وليلة «حكاية الملك العريان»، إذ ينجح اثنان من الشطار فى أن يقنعاه بأنهما سيغزلان له ثوبًا خاصًا من خيوط الحرير والذهب، وهى كسوة فريدة لا يستطيع المنافقون رؤيتها.. وبالطبع لا يجرؤ أى من حاشية الملك ولا الملك نفسه أن يعلن صراحة عن أنه لا يراها، حتى لا يدخل فى زمرة المنافقين، بل بالغوا فى الثناء على جمالها إثباتًا لرؤيتها، بينما فى واقع الأمر لا توجد كسوة.. طفل برىء فقط هو من جَرُؤ فى أثناء موكب الملك أن يشير إليه ويقول إنه عارٍ، وقد ساعدت تقنية خيال الظل هنا على إطلاق الخيال وتأكيد الرسالة. 

فى حقيقة الأمر لقد كان الأسعد المحواشى هو هذا الطفل البرىء الذى رأى وقال- عبر عرائسه- المسكوت عنه، وكانت مشاركته فى عرض «ما يراوش» امتدادًا لذات الرسالة، فقد قدم مخرج العرض منير العرجى فى دراماتورجيته لنص «العميان»، لموريس ماترلينك طرحًا فلسفيًا وجماليًا حول مفهومى العمى والبصيرة، متسقًا مع قناعة المحواشى، إذ استخدم الائتلاف الجسدى بين الممثل البشرى والعروسة، والاختباء وراء الأقنعة والعصى/ العكاز كمؤشرات عجز تختبئ خلفها شخصياته هروبًا من المواجهة، فهل سيبصر العميان ويلقون بالأقنعة والعكاكيز أم سيبقون مقيدين بوهمهم؟

وهكذا وفى إطار هذا الطرح العميق وتلك الرسالة، ظل الأسعد المحواشى وحتى آخر لحظة ممسكًا بعروسته، مختبئًا خلفها، ولكن لا ليتخفى بل ليظهر وليفضح كل سوءاتنا.. فاستحق عن جدارة تكريمه بدرع مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الـ٣٠ وسط تصفيق ودموع كل الحضور وقوفًا لعدة دقائق.