رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أم خليل» السلطانة

مجموعة من الأحداث الغريبة والفريدة عاشها أهل مصر عام ٦٤٨، أحداث بلغت من الغرابة حدًا لم يسبق للمصريين أن عاشوه أو سمعوا عنه. فى هذا العام انتهت دولة الأيوبيين فى مصر بعد مقتل آخر سلاطينهم الملك المعظم توران شاه. فوجئ الأهالى بعدها بـ«شجرة الدر» أرملة الملك الصالح أيوب تعتلى سرير السلطنة، بعد أن وافق على ذلك المماليك الذين دبروا مؤامرة اغتيال السلطان، على أن تعتمد فى إدارة السلطنة على الأمير «أيبك التركمانى» مدبر المملكة. ورغم أن الأهالى كانوا يعلمون أن «شجرة الدر» لم تكن أكثر من واجهة لحكم المماليك المنقلبين على «توران شاه» ابن الملك الصالح أيوب بزعامة «أيبك»، إلا أن وجود امرأة على رأس الحكم، فى ذلك الوقت، كان أمرًا مستغربًا ومحل استهجان من جانب الأهالى، لأن المرأة فى نظرهم «حرمة» لا يليق أن تنكشف فى مثل هذه المواقف، وحتى عندما سمع الناس أن الأمراء المماليك يخاطبون السلطانة من وراء حجاب، وليس وجهًا لوجه، فإنهم لم يرضوا، كما لم يأبهوا إلى ما حرص عليه خطباء المساجد فى ذلك الحين من عدم ذكر «شجرة الدر» باسمها، احترامًا لفهم عام سائد لدى المصريين بأن المرأة لا يجوز ذكر اسمها صراحةً أمام الغير، وأن الأنسب نسبة المرأة إلى أولادها، فيقال «أم فلان». ذلك ما التزم به الخطباء فكانوا يدعون لها- بعد الدعاء للخليفة العباسى- قائلين: «واحفظ اللهم الجهة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجليل، والستر الجميل، والدة المرحوم خليل».. وكان توقيع السلطانة على المراسيم هو «أم خليل».

رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من أن شجرة الدر ساست أمور المصريين على أحسن ما يكون، وأجزلت العطاء للرعية والعمل من أجلها، إلا أن الناس كانت تعرب عن تضجرها باستمرار من وجودها على رأس السلطنة، وكأنهم لا يهتمون بقيم مثل العدل والإصلاح، قدر ما يكترثون بعادات وتقاليد تربوا ونشأوا عليها. وكان مشايخ ذلك العصر يغذون هذا الإحساس داخل الرعية، بما فى ذلك الشيخ عزالدين بن عبدالسلام، وينقل «ابن إياس» عنه قوله: «لما تولت شجرة الدر على الديار المصرية عملت فى ذلك مقامة، وذكرت فيها، بماذا ابتلى الله به المسلمين بولاية امرأة عليهم». وجاءت الضربة القاصمة للتجربة الفريدة من نوعها بوجود سلطانة على رأس حكم مصر برسالة بعث بها الخليفة العباسى «المستعصم» يطلب فيها من الأمراء إعلامه إن كانت مصر قد عقمت عن إنجاب الرجال ليرسل إليهم رجلًا يحكمهم. عندما سمعت «شجرة الدر» عن الرسالة جمعت الأمراء والقضاة، ثم أعلنت أمامهم خلع نفسها من الحكم، بعد جلوسها على سرير السلطنة رسميًا لمدة تقرب من ٣ أشهر، وتوافق معها الأمراء والقاضى على حل وسط تتزوج «شجرة الدر» بموجبه مدبر المملكة الأمير «عزالدين أيبك التركمانى»، ليصبح سلطانًا على البلاد، وهو ما وافقت عليه على مضض.

كان تولى «أيبك التركمانى» حكم مصر مفاجأة لا تقل دهشة أو عجبًا عن تولى شجرة الدر الحكم، إن لم تزد عليها. فتولية امرأة للعرش مسألة يعرفها الأهالى، مما يسمعونه من تفاسير لآيات القرآن الكريم التى تحكى حكايات ملكة سبأ «بلقيس»، وإنكارهم لمسألة تولى شجرة الدر كان محكومًا بالعادات والتقاليد والثقافة الاجتماعية أكثر مما هو محكوم بمواقف دينية حاسمة. ما لم يكن يعرفه الأهالى حقًا حينذاك هو أن يتولى «رقيق مملوك» اشتراه مولاه من أسواق النخاسة عرش البلاد. فأيبك يعد أحد المماليك الترك الذين استكثر من شرائهم الملك الصالح أيوب، وكان الجميع ينظر إليه وإلى غيره من المماليك كمجموعة من المحاربين الذين يعملون لحساب سلطان، لكن أن يتسلطن أحدهم على الحكم، فذلك ما لم يكن يتصوره أحد، لذا فقد انزعج الأهالى أشد الانزعاج لما تولى «أيبك التركمانى» الحكم، ولم يفوتوا موكبًا له إلا وأمطروه بوابل من الشتائم والسب والسخرية من «المملوك الذى أصبح ملكًا»، حاول «أيبك» رشوة الأهالى بالعطايا الجزيلة، لكن ذلك لم يردهم عن مواصلة الهجوم عليه وتحقيره، وترتب على ذلك عجيبة جديدة من عجائب تلك الفترة.

ففى زخم رفض الأهالى لتسلطن عبد مملوك عليهم استغل المماليك الصالحية «مماليك الصالح نجم الدين أيوب وتوران شاه» الموقف وأحضروا أميرًا من بنى أيوب عمره ٢٠ عامًا وسلطنوه على البلاد وأطلقوا عليه «الملك الأشرف»، وأصبح سلطانًا إلى جوار السلطان «أيبك»، وباتت مصر محكومة بسلطانين، أو مركبًا بـ«ريسين». يقول «ابن إياس»: «لم يعزل أيبك من السلطنة، بل صار معه مثل الشريك له، فكان يخطب باسمهما يوم الجمعة على المنابر، وضربت السكة على الدراهم والدنانير باسمهما». ظلت الحال كذلك لفترة من الزمن بدأ فيها «أيبك التركمانى» يرتب أوراقه بشكل مختلف ومنظم بهدف الاستفراد بالسلطة، فاستكثر من شراء المماليك وشكّل حزبًا سياسيًا وعسكريًا قويًا، بانت أبرز أمارات قوته فى خطة قتل «فارس الدين أقطاى» زعيم «المماليك الصالحية» الداعمين للملك «الأشرف»، حيث تخلص منه بالاعتماد على المماليك الذين قام بجلبهم، وألقى رأسه إلى أنصاره من قلعة الجبل، فأرعبهم، ودفعهم إلى الفرار من مصر إلى الشام. بعدها ألقى «أيبك التركمانى» القبض على «الملك الأشرف» شريكه فى الحكم، وسجنه فى قلعة الجبل.

أخيرًا استراح «أيبك التركمانى» على كرسى السلطنة، بعد أن تخلص من أعدائه من المماليك الصالحية، ومنافسه «الملك الأشرف»، بالإضافة إلى نجاحه فى إسكات الشعب عن الغمز واللمز فى حقه بالترغيب والترهيب، لكن ظهر له فجأة منغص من داخل بيته، يتمثل فى «شجرة الدر» التى كانت تعايره باستمرار بأنه صنيعتها وأسير نعمتها وأنه لولاها لما وصل إلى السلطنة. أراد «أيبك» أن يؤدب زوجته، كما أدب من قبل المماليك الصالحية والملك الأشرف والشعب، ولم يجد وسيلة أوقع لذلك من أن يتزوج عليها، فأرسل يخطب بنت بدرالدين لؤلؤ صاحب الموصل، وعلمت شجرة الدر بالأمر، فرتبت على سحب «أيبك» إلى القلعة، وكان قد هجرها غضبًا، عاد الرجل واستقبلته «شجرة الدر» وقبلت يده وأرضته وأسعدته، بعدها دخل للاستحمام، فإذا بمجموعة من الخدم الروم يقفون فوق رأسه، انتدبتهم شجرة الدر لقتله، توسل إليها ورجاها أن ترحمه، رقت له، وقالت للخدم الموكلين بقتله: «اتركوه»، فرد الخدم: «لو تركناه لقتلنا وقتلك».

وكأن نظرة المصريين للمرأة لا تفنى ولا تستحدث من عدم.