رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«خُزامى».. سرد ذكى عن «مجاريح» حقبتى صدام حسين والغزو الأمريكى لبغداد

رواية خُزامى
رواية خُزامى

فى روايته «خُزامى»، الصادرة حديثًا عن «منشورات الجمل»، يُشرّح الروائى العراقى سنان أنطون جرح وطنه العراق بأناة وتمهل، عبر استشكاله لما تعنيه تناقضات الذاكرة الفردية والجمعية، حين يكون فقدانها أو رسوخها على حد سواء أزمة تحول دون التواصل مع الحاضر والتطلع إلى المستقبل. 

يُجرّد غلاف رواية «خُزامى» الخطوط السردية للرواية بتكثيفه الدلالى لمضمون النص؛ فثمة ضمادتان تُنوّهان بأن جرحين لا يُدرك مدى عمقهما سيحتلان فضاء الرواية، وكذلك سماعة أذن سيكشف النص عن اتصالها الوثيق بواحد من الخطوط السردية، وأذن مستأصلة هى لُب أزمة شخصية أخرى أساسية بالنص.

يُجيد الروائى العراقى استغلال عتبات النص بما يلائمه ويحقق مرامه، فيصدّر عمله بأربعة تصديرات تتواشج مع فضاء النص بصورة دالة؛ التصدير الأول لسركون بولص عن الموسيقى «نصغى إلى هذه الموسيقى/ تأتينا من لا مكان مثقلة بأعجب الأخبار..»، والثانى لدوريان لوكس «نحن جميعًا نكتب من داخل جرح، هذا هو المكان الذى تأتى منه أغنيتنا..»، أما الثالث فمن مسرحية «الملك لير»: «من ذا الذى يمكن أن يقول لى من أنا؟ نحن لسنا أنفسنا»، والتصدير الرابع عن الذاكرة لباتريسيو غوزمان: «أولئك الذين يمتلكون ذاكرة يعيشون فى الماضى الهش، والذين بلا ذاكرة لا يعيشون فى أى مكان».

يقبض كل اقتباس من الاقتباسات الأربعة فى التصدير على فكرة رئيسة تحملها الرواية، فالموسيقى القادمة من اللا مكان هى ما تنقل بطل الرواية سامى إلى الوطن وذكرياته الجميلة به ولو عبر أطياف تُجابه عصيان ذاكرته وتمردها على الاحتفاظ بما تحمله ليصير مقصيًا عن ذاته وعن ماضيه ومُغيّبًا عن حاضره، غير قادر على العيش فى «أى مكان». 

فى مقابل سامى الذى يحيا بلا ذاكرة، فإن عمر البطل الآخر فى الرواية يحيا بجرح ذاكرته، بماضيه العراقى الذى يسعى للتعمية عليه لكن لا يقيض له النجاح، فهو يعيش فى ذلك الماضى الهش وبه، ولا يستطيع أن يمحيه من ذاكرته رغم محاولاته الحثيثة؛ فكل من عمر وسامى مُقاد عبر إشكالية الذاكرة للشك فى كُنه ذاته وحقيقتها الراهنة. 

تقدم الرواية خطين سرديين موضوعهما الذاكرة؛ فإن كان حضور الذاكرة وإلحاحها فى الخط السردى الأول هو قوام المشكلة وأساسها، فإن فقدان الذاكرة وتداعيها فى الخط السردى الثانى هو الأساس، وفى الحالتين، فالجراح التى سبّبها الوطن هى ما تجعل الذاكرة موضع الاستشكال بطريقتين مختلفتين. 

يسرد الخط الأول مسيرة «عمر»؛ الشاب العراقى الذى كانت عاقبة تمرده على حياة العسكرية بجيش «صدام» فى عراق التسعينيات من القرن الماضى استئصال أذنه، لتصير أذنه المشوّهة ذكرى مريرة لا تُمحى عن وطنه، وتخفق كل محاولاته للقفز عليها حتى بعد أن يغادر وطنه إلى الولايات المتحدة.

أما الخط الثانى فعلى النقيض يكثّف أزمة فقدان الذاكرة عبر سرد حياة سامى الطبيب المتقاعد الذى ترك وطنه بعد الاحتلال الأمريكى للعراق، ليهاجر إلى أمريكا ويسكن مع أسرة ابنه، لكن ذاكرته تتداعى شيئًا فشيئًا إلى أن يفقد كل صلة بذاته وأسرته ولا يربطه بماضيه سوى ما تستدعيه بعض الموسيقى من شجن لماضٍ مثقل بحلو الذكريات ومرها، وما تستحضره رائحة «الخُزامى؛ اللافندر» من قرب مفتقد مع زوجة رحلت. 

تربط الرواية ما بين الخطين السرديين بالاتكاء على الذاكرة الشمية ممثلة فى «الخُزامى/ اللافندر»، فسامى الذى فقد ذاكرته وأُصيب بالخرف، تعيده رائحة الخُزامى إلى ماضٍ سعيد وذكرى جميلة وحياة ملؤها الحب والدفء الأسرى، أما عمر، الذى يعمل أخيرًا بمزرعة للخُزامى، يأمل من عمله أن يلقى مستقبًلا بهيجًا يمحو به ظلال الماضى، لكن الخُزامى فى الرواية لن يستعيد الماضى ولن يمحيه، بل إنه سينوّه، عبر إسهامه فى التقاء الخطين السرديين، بأن الماضى الجميل غير قابل للاستعادة مهما حاولنا، وذلك التعيس لا مفر من تحمُّل آثاره ومواجهته.

تُعبّر الرواية عن ثيمتها المركزية بالارتكاز على آلية عمل الذاكرة ذاتها، فيأتى السرد متشظيًا عبر كولاج من شذرات تشبه عمل الذاكرة الانتقائى والعشوائى الذى يخلط الماضى بالحاضر، إذ لا يتبع السرد المنطق الخطى بل ينأى عنه بما يتوافق مع ثيمة العمل وفكرته الأساسية. 

يقدم الروائى العراقى عبر الخطين السرديين بالرواية إدانة للاستبداد ممثلًا فى الحكم البعثى بالعراق الذى جعل الجناة أدوات بيده رغمًا عنهم بينما هم ضحايا له تمامًا مثل المجنى عليهم، وفى الآن ذاته يقدم استهجانًا لجرائم الولايات المتحدة بالعراق، والتى لا يغض العمل الطرف عن تبيان آثارها التدميرية الكبرى. 

ولا تقتصر الرواية على تفصيل هذا «الاحتلال المزدوج»؛ الاستبداد والجرائم الأمريكية، الذى مُنى به العراق، بل إنها تُبرِز نسبية الصورة البراقة للمجتمع الغربى الليبرالى عبر إلقائها الضوء على صعوبات اندماج الثقافات المغايرة بهذه المجتمعات والعراقيل الفكرية التى تحول دون استيعاب الآخر دون أحكام مسبقة.

ولا تقتصر الرواية، رغم ثيمتها المركزية المهمة، على الإطار المحلى ممثلًا فى إعادة النظر بالعقود الأخيرة للعراق والسرديات الرسمية عنها، ولكنها تتبنى فلسفة عامة تُدين الحروب والجشع الإنسانى الذى يجعل من الإنسان ذئبًا لأخيه تُحركه المطامع والأهواء التى لا تتوقف.